كيف تقوم بـ:
إن معظم الاستفسارات التي يطرحها المحرر أثناء تحريره المسوّدة الأولى لنص ما – على افتراض أن العمل الميداني والتحليل العام والهيكل قد نوقشت مسبقاً – تدور حول جملة القضايا نفسها: ما النقطة التي يرمي الكاتب إلى توضيحها بالضبط؟ ما صلتها بالنقطة التي سبقتها؟ هل فسّرها الكاتبُ بما يكفي من الوضوح؟ هل دعَمَها بالأدلة الكافية؟ هل ذكَرَ مصادره كما ينبغي؟ هل رسَمَ حُججه "بـاللون" الأنسب لجعلها ملموسة للقارئ؟ وأخيراً، هل أغفَلَ الكاتب أيّة فوارق بسيطة أو نقاط مضادة؟
في معظم الفقرات، سيطرحُ المحررُ بعضاً من هذه الأسئلة على الكاتب، فتتحوّل المسوّدة إلى مستندٍ يغصّ بالتعديلات ويسبب الإحباط؛ ثم تبدأ عمليةٌ طويلةٌ لمعالجة تلك المشاكل؛ وبانتهاء هذه العملية يصبح من الممكن إجراء جولةٍ ثانيةٍ من التنقيح تخفف من ذلك الإحباط، وتركّز على تشذيب الحُجج والأسلوب وانسياب النص. يستلزمُ تحسينُ الكتابة في مرحلة التحرير الأولى تقليل الحاجة إلى تلك الاستفسارات ما أمكن.
والطريقة الأمثل لتحقيق ذلك هي الكتابة في كتل، وهي عملية مصطنعة نوعاً ما، ولكنها فعّالةٌ للغاية، وتتمثّل في بناء فقرات تأخذ بالحسبان كل النقاط الواردة أعلاه؛ وينبغي كتابة كل فقرةٍ حول حجةٍ واحدة (أيْ طرحٌ مفاهيميٌ وتحليلي واحد)، ورفْدُها بما يدعمها من حقائق ومراجع وأمثلة واقتباسات ونقاش للحُجج المضادة؛ ولضمان وصولها إلى صلب الموضوع مباشرةً، لا بد أن تكون الفقرة قصيرةً وألّا تزيد عن عشرة أسطر في صفحة بمقاس A4، وأخيراً يجب أن تقترن الفقرة بالكتلة التي سبقتها، ضمن تسلسلٍ منطقي بحيث لا يُجبر القارئ على اللجوء إلى التخمين.
ضع تحليلك في أجزاء صغيرة بما يكفي ليكون فهمها ممكناً
وبعبارة أخرى، ينبغي أن تبوح كل فقرة بغرضها في المقدمّة، ثم تغطّي جميع جوانب الطرح الذي بدأت به؛ وبطبيعة الحال، عليك أن تقسّم تحليلك إلى أجزاء صغيرة بما يكفي ليكون فهمهاً ممكناً في بضعة جمل؛ وإذا احتجت لأكثر من عشرة أسطر لشرح فكرة، فهذا يعني أنك جمعت عدة أفكار معاً؛ ولذا سيتعين عليك تفكيكها والتعامل مع كل منها في فقرة منفصلة.
واعلم أن استخدام البنية نفسها لا يصلُحُ لجميع النقاط التي تطرحها، ففي بعض الأحيان، ستعتمدُ على مراجع عدّة، وفي أخرى ستركّز على مثالٍ عمليٍّ واحدٍ استقيتَه من عملك الميداني؛ وقد يكفي اقتباسٌ مرفقٌ بتعليق منك للتعبير عن فكرةٍ معقدةٍ من خلال بصيرة شخصٍ ذي مصداقية؛ وبغضّ النظر عن تمايز تركيبتها، ينبغي على الفقرات جميعاً أن تنتهي بفهم القارئ لمنطق حجتك وقبوله لها. (يمكنك استخدام هذه الفقرة كمثال).
وبعبارة أخرى، عليك تخيّل الجمل أسهماً تشير ناحية اليسار، وكل جملةٍ تفصحُ عما في الجملة التالية بإضافة عنصر وحيد فقط إلى الجملة التي سبقتها والتلميح إلى ما سيأتي بعد ذلك منطقياً؛ وقد يكون ذلك العنصر برهاناً، أو فارقاً دقيقاً، أو غير ذلك؛ وتنتهي الفقرة عندما لا يبقى في جعبتك ما يمكن إضافته، وهو ما سيمهّدُ إلى فقرة جديدة تبدأ بالفكرة التالية ذات الصلة. (تعمل السطور القليلة السابقة بهذه الطريقة تحديداً).
تخيّل الجملَ أسهماً تشير نحو اليسار
وستؤدي العبارات المباغتة أو رديئة الصياغة إلى الإخلال بهذا الانسياب، ما سيربك القارئ ويشتت ذهنه، فقد تبدو الجملة وكأنها هبطت على النص بمظلة، أو كسهمٍ هوى من الأعلى؛ وقد تبدو وكأنها تهرول من مكانها، وتعبّر عن شيء بعُجالةٍ أو بمصطلحات غاية في التجرد بحيث لا يسعُ القارئ مجاراتها؛ أو قد تبدو كمن يقفز من جُرفٍ وتودي بنا في الهاوية؛ كما أن بعض الجمل تُكثر من التلميح، ولا تقدّم الخلفيةَ اللازمةَ لاستيعابها، فتعود بنا إلى الوراء، وتجعلنا نتساءل عما قد فاتنا في المقاطع السابقة، فأيّ إحساس بالالتباس سيدفعنا للعودة إلى حيث لم يكن ثمة التباس أو غموض بعد (أو سينفّرنا من القراءة ببساطة).
والطول مهمٌ للجُمل بقدر ما هو مهم للفقرات، فإن احتوت العبارة على شيء وحيد فحسب، وعبّرت عنه بوضوح، فما من سبب يستدعي الاسترسال فيها، وباتباع هذه القاعدة تصبحُ كلُّ جملةٍ لبنةً من لبنات الفقرات، والتي بدورها تشكّل لبنات بناء النص ككل؛ وكلّما حسّن الكاتب من قدرته على عرض حُججه بتسلسل سلسٍ ومنطقي، تصبح العلاقة بينه وبين المحرر بنّاءة لا هدّامة، وقد يشكّل هؤلاء الحلفاء الجدد كتلةً لها شأنها في مجال الكتابة والتحرير.
24 شباط/ فبراير2017
تم استخدام الصور منBloks puzzle Pixabay