مهارات البحث


الدخول في حقل الألغام العراقي


    كيف تقوم بـ:

  • تحليل نفسك، تعزيز الشفافية، توسيع آفاق بحثك
  • تطوير فهمك لمعنى البحث، الهوية، والأمان

على مر أكثر من عقدين، قامت لؤلؤة الرشيد بعملاً ميدانياً رائداً في العراق، معظمه في ظروف شديدة الصعوبة: الاستبداد الطاحن والعقوبات الاقتصادية المنهكة في التسعينيات، والاستعداد للغزو الأمريكي عام 2003 وآثاره، والحرب الأهلية التي تلت ذلك، وصولاً إلى الصراع الأخير لاستعادة الأراضي من الدولة الإسلامية. وفي خضم ما عايشته، سبرت الرشيد كل جوانب المجتمع العراقي تقريباً، وواجهت تهديدات لا تعد ولا تحصى، وتفردت بتطوير فهم غني ودقيق لدولة تعد لأي باحث مكاناً محبباً وقاسياً على حد السواء. وقد تكرمت الرشيد بالتحدث إلى سيناپس حول بعض الجوانب الشخصية لتجربتها

لؤلؤة، كيف يؤثر وضعك كامرأة – في سياق تتمحور فيه السياسة حول الرجال – على عملك الميداني؟

. في الحقيقة، العديد من الأشخاص الذين أتعامل معهم من الرجال، بل جميعهم في الواقع، لا سيما عندما يتعلق الأمر بكبار المسؤولين والسلطات الدينية وقادة القبائل وأمراء الحرب. وتتمثل سياستي بأن أكون مرنة: إذا توجب علي ارتداء الجوارب والقفازات إلى جانب الحجاب لمقابلة مجاهد في النجف، فسأفعل..

لكني أضع أيضاً حدوداً لمنع أي سلوك غامض من جانب من أحاورهم من الرجال؛ فلا أسمح لهم بالخوض في مواضيع حميمية، ولا أقبل حضور اجتماعات تتعارض مع الأعراف المحلية —كدعوة عشاء فردية، وأرتدي ملابس ملائمة وأحرص على الوصول في الوقت المحدد. إلى حد ما، يجب ألا يشوب سلوكي أي شائبة لأحصل على الاحترام الذي أطلبه. وهنا، سُمعتك هي رأسمالك، وعليك الاستثمار فيها باستمرار، فهي تسبقك إلى أي لقاء جديد، لا سيما في مجتمع يبادر الناس فيه للسؤال عنك قبل لقائك..

بصورة عامة، لم تشكل حقيقة كوني امرأة عائقاً كبيراً أمامي، بل وكانت ميّزة مهمة. وكمثال عن سلبيات هذه الحقيقة، أرى شخصية هامة تشرع في التحدث مع رجال ضمن وفد من الزوار، بينما تهمل وجودي. كما أضطر للتعامل مع أسئلة تطفلية من صيغ، هل أنا متزوجة أم لا، ولماذا ليس لدي أطفال، حتى أن بعضهم يسأل إن كنت عقيمة! من الصعب على العديد من الرجال معرفتي حقاً. ولكنني، وبدلاً من الشعور بالإهانة، أحلل ذلك كما أفعل أي شيء آخر – متسائلة ما الذي تخبرني به هذه الأسئلة عن المجتمع العراقي.

على أي حال، لا زالت المزايا تفوق السلبيات بكثير. أولاً، تثير الباحثة الكثير من الفضول، وهو أمر إيجابي ويمكن الاستفادة منه. ثانياً، تعتبر المرأة بريئة – محدودة التفكير وغير مؤذية. إذن، دعونا نحقق أقصى استفادة من هذه الفكرة! وبما أن الناس تتعامل معنا غريزياً بحذر أقل، يمكننا جمع روايات أكثر صراحة. وأما الميزة الثالثة، فتتمثل بالأبواب المفتوحة أمامنا إلى جزء غاية في الأهمية من المجتمع يكافح الباحثون الذكور للوصول إليه: النساء الأخريات. وتؤدي النساء في هذا المجتمع دوراً أقل وضوحاً، وإنما غالباً ما يكون حاسماً. والأمر متروك لنا، نحن الباحثات، للامتناع عن الالتزام بالنموذج الأبوي، والذي نلتزم به غالباً عن غير قصد عبر التحدث مع الرجال بصورة عامة. وأعترف أن الأمر استغرق مني بعض الوقت للابتعاد عن هذا الاتجاه..

ا النصيحة التي تقدمينها للباحثين الشباب حول كيفية التفاعل مع محاوريهم عند إجراء أبحاثهم؟

نصيحتي الأولى هي أن تعرف نفسك وتحللها باستمرار. عندما نبدأ عملاً ميدانياً، نكون محملين بكثير من الهموم والمشاكل التي تحدد مسبقاً خياراتنا وآرائنا. المجتمعات معقدة، لكننا كذلك أيضاً، لذا يجب علينا أن نحاول فهم أنفسنا: لماذا نعمل في هذا المكان أو ذاك، أو على هذا الموضوع أو ذاك؟ كيف نشرع بالعمل عليه وبأي نهج؟ ما الموضوع الذي نحن بصدد نقاشه بالضبط؟. لكل منا "إحداثياته" الاجتماعية والسياسية واللغوية الخاصة، والتي قد يشعر الأشخاص الذين نلتقي بهم بحساسية تجاهها، الأمر الذي يؤدي إلى فتح أبواب معينة، وإغلاق أخرى، وتحديد المساحة التي نتحرك فيها، ويقيد جزئياً سلوك الآخرين من حولنا. وفي خضم ذلك، نتغير نحن أيضاً أثناء العمل الميداني، وهو متغير آخر نحتاج إلى التفكير فيه..

عليك أن تكون سخياً بوقتك وعواطفك ونفسك

ثانياً، أعتقد أنه علينا أن نتمتع بالشفافية والاتساق. قد تمارس كثيراً من الغموض بشأن بعض جوانب هويتك، أو تبرز جوانب أخرى: هويتي مزيج من السمات القبلية والفكرية والسعودية والفرنسية وغيرها، والتي توفر موارد يمكنني استخدامها بشكل مختلف في ظروف مختلفة. وعلى سبيل المثال، لن أعمل بالضرورة على تصحيح افتراضات حميدة، ولكن غير دقيقة، يفترضها شخص ما إذا كانت ستؤدي إلى تسيير الأمور. ولتهدئة التوترات المحتملة، كثيراً ما أحوّل أمراً قد يتحول من  إشكالية إلى مزاح، مثل كونك أجنبي، أو سُنّي أو غير ذلك. ومع ذلك، يبقى عدم الكذب مطلقاً أمر جوهري؛ ففي مجتمع فضولي تنعدم فيه الثقة كالمجتمع العراقي، يودي الكذب إلى ضرر يتعذر إصلاحه..

وهنا، ثمة مسألة تتعلق بالمبدأ أيضاً؛ فما من سبب يسوغ لنا سؤال الناس جميع هذه الأسئلة عنهم، بينما نمتنع عن تلبية رغبتهم الشرعية في الحصول على أجوبة منا. وليس لدينا الحق في أن ندعي بأننا أكثر ذكاءً أو قدرة على التحليل من أولئك الذين نجري المقابلات معهم. كما لا ينبغي لنا استغلال طبيعة الشعب العربي المضياف، والتي تحول دون سهولة تجاهل شخص غريب أو طرده كما يفعل الغربيون. وفي بعض الأحيان، قد يحدث أن ينتاب بعض الأشخاص ارتياباً شديداً ويتصرفون بعدوانية، ولكن عادة ما يكون لديهم أسباب وجيهة – وهو أمر يجب علينا قبوله وتحليله.

بعبارة أخرى، عليك أن تكون سخياً بوقتك وعواطفك ونفسك. فمن السهل أن يشعر الأشخاص الذين تجرى معهم المقابلات، دون وعي منهم، بأن الباحث ينهبهم: إذ يُفصحون بالكثير عن أنفسهم، ولكن ما الذي يحصلون عليه في المقابل؟ وبالطبع، لا نتحدث هنا عن المال بالضرورة. ولكن هناك طرق عدة لجعل التفاعل قيماً: مشاركة التحليل المفيد مع صناع القرار؛ نقل وجهات النظر التي لم يُسمع بها من قبل؛ أو ببساطة تخصيص وقت للناس ومشاكلهم، الكبيرة منها والصغيرة. وفي الحقيقة، لا يتوقف العمل الميداني عند البحث، وإنما يتطلب مزيداً من المتابعة الشخصية، وأحياناً لسنوات لاحقة . تلك العلاقات التي تتسم بالصبر والعطاء على وجه التحديد، أثبتت كونها مثمرة أكثر. وتلك نصيحتي الثالثة.

كن قريباً من الناس كي تُنتج معرفة تخاطبهم 

وأخيراً، أجد أن الباحثين يميلون إلى الاكتفاء بفهم بالغ الضيق للمواد التي يجمعونها للتحليل، حيث يبحثون في الأرشيف، أو الأحداث الجارية، أو الروايات، أو المواد المصورة التي تتعلق بالموضوع وترمز إليه. ولكني، في المقابل، أؤمن ببذل الجهد لتوسيع مجموعة مواد التحليل بشكل إبداعي، لتشمل كل ما قد يكون ذا صلة بحياة محاوري: البرامج التلفزيونية، والكتب الشعرية على رفوفهم، وسلالة أنسابهم، وتعليقات الفيسبوك، ويمكنك أن تذكر غيرها ما شئت. وتتمثل أهمية ذلك في الانغماس بعلاقات مودة وألفة معهم، وإظهار معرفة تلامسهم، لتصل إلى "ذكائهم" في التعامل مع ظروفهم ومشاكلهم الخاصة.

كيف تعاملت مع المخاطر العديدة التي واجهتها أثناء عملك، بداية في ظل نظام استبدادي، وبعدها في مجتمع مزقته الحرب؟

سأبدأ بالحديث عن أمرين: أولهما أن الباحث يكون وحيداً أساساً في مواجهة الخطر، لذا يكون الأمر برمته على عاتقنا. وثانيهما أن التهديدات تتسم بتعدد الأوجه والغموض بشكل متزايد. عندما بدأت في التسعينات، كانت المشكلة تتمثل في النظام، حيث اضطررت إلى التعامل مع مسؤول أمني كان يظهر على باب منزلي بين الحين والآخر، كما خضعت لاستجوابات في عدة مناسبات. لكن لو حدث وأن اختفيت، كان النظام هو الحل أيضاً. وكان معارفي من المحبين وفاعلي الخير يعرفون أين يجدونني، وعلى أي الأبواب يطرقون. أما الآن، فلديك العديد من اللاعبين، ممن يتصف عنفهم بمزيد من الريبة؛ فقد يقومون بحمايتك أو قتلك اعتماداً على الظروف. ولم يعد للزي الموحد وغيره من العلامات معنى أو جدوى، وانتشر الإجرام حتى داخل الهياكل الأمنية الرسمية؛ باتت التهديدات مبهمة تماماً كما المشهد السياسي..

ومع ذلك، ثمة بعض القواعد الأساسية التي يمكن أن تساعد في العمل. من المهم أن تثق بغريزتك، التي تزداد حدة مع تقدمك. إذا كنت ستقابل شخصاً يشعرك بالقلق، فتمهّل وانتظر لتعرف المزيد عنه أو لتعرف المزيد من الأشخاص من حوله؛ لا غنى لك عن الصبر في بيئة محمومة وخطرة. وبهذا الصدد، عليك أن تحدد بوعي نوع المخاطر التي ترغب أو لا ترغب في خوضها. وعلى سبيل المثال، أنا لا أذهب مطلقاً إلى منطقة لم تُنزع ألغامها – لا نقاش في الأمر. ويعد اتخاذ قرارات كهذه أمراً ذا أهمية، لا سيما وأن الخوف الذي ينتابك يظهر عليك بشكل جلي، الأمر الذي يغير بدوره الطريقة التي يراك بها الناس، ويأتي بتهديدات جديدة إذ يجعلك مكشوفاً أكثر للآخرين.

كما أوصي بتجنب "أماكن الحدث"، فعادة لن يكون هناك الكثير لنتعلمه في منطقة قتال، على سبيل المثال، بل الكثير من الانتظار والاندفاعات العرضية من العنف والارتباك. ويبدو من المنطقي أكثر أن نتحدث إلى الأشخاص بمجرد أن تتاح لهم فرصة جمع المعلومات ومعالجتها. وأخيراً، أود أن أحذر من أي شعور بالراحة. من الطبيعي أن يكون الشعور بالألفة والطمأنينة، "وكأنك في موطنك"، بعد سنوات من العمل الميداني شعوراً رائعاً، ولكنه خادع وخطير؛ فمهما أحببنا المكان وناسه، لسنا في موطننا. وهذا ما يعيدنا دوماً إلى التشكيك بأنفسنا، ودوافعنا، وتقدمنا، وتلك الثقة المرعبة بالنفس.

13 تشرين الثاني/نوفمبر 2017


تم استخدام الصور من:

Metal detector from World War by F.Honoré oWikipedia public domain.


محتوى ذو صلة