مهارات البحث
العمل الميداني في ظل الخطر
تعتبر قضايا الأمن سندريلا البحوث الميدانية، فهي إما ضحية الإهمال الشديد من قبل المنظمات أو مدار ضجتها المفرطة – وعندها يتكفل المستشارون والتدريبات والاستمارات والعمليات والإجراءات بإعطاء انطباع السيطرة المطلقة، علماً أنه لا شيء من هذا القبيل ممكن. غالباً ما تبدو السیاسات الأمنیة أشبه بالعبث: تشطب السفارات مناطق كاملة معتبرة إياها ”مناطق حمراء“ رغم اشتمالها على الكثير من الرمادي والأخضر؛ تقوم المنظمات بإعداد تمارين مكلفة على العنف الفتاك في حين تهمل مهارات الإسعافات الأولية التي لا تقل ولعلها تزيد أهمية؛ يطور المغتربون عقلية المخبأ التي تجعلهم بالعكس أكثر عرضة للخطر نتيجة الانفصال عن الوسط المحيط.
صعوبة تحقيق التوازن الصحيح في المسائل الأمنية أمر مفهوم، نظراً لتعقيد المشكلة: التهديدات متعددة، وديناميكية، وغامضة في كثير من الأحيان، ومحددة عموماً لكل فرد ضمن سياق معين، مما يجعل من الصعب تصميم استجابة موحدة. إلا أن معالجة المسائل الأمنية تقوم على مواءمة أشكال منطق متعددة ومختلفة جداً. فالديناميات المتحولة على الأرض؛ والروتينات الشخصية غير الرسمية؛ والأطر التنظيمية الرسمية كلها تلعب دوراً، وكثيراً ما تقود إلى ”معاشرات“ خرقاء. يأتي الخطر من إمكانية تغير البند الأول بشكل أسرع من الثاني، والذي هو نفسه قد يعود بسرعة ليحتل المرتبة الأخيرة.
ونظراً لاستحالة وجود قالب واحد يناسب الجميع، فإن التركيز هنا سيتناول استعراضاً لمنهجية شاملة يمكن تكييفها بحسب السياق. ثمة مفهومان أساسيان هما الوعي – الذي يتوقف على الباحث في ميدانه – والمسؤولية – التي تقع في نهاية المطاف على عاتق صاحب الدور الإشرافي. كلا المفهومين يتطلب المرونة والتواصل الفعال واللحظي، ولكن أيضا قدراً من التروي والعقلنة: كلما قام الباحث والمدير بتحليل المخاطر الميدانية زادت فرص الحفاظ على رباطة الجأش حين تتعقد مجريات الأمور.
التركيز هو منهجية شاملة يمكن تكييفها بحسب السياق.
عموماً ستستند البحوث الميدانية في الظروف غير المستقرة إلى ”منظومة“ يطورها الباحثون أنفسهم – بوعي أو بدون وعي. يسترشد سلوك الباحث بمجموعة من الافتراضات المتعلقة بالبيئة؛ مختلف الموارد – بما يشمل الأصدقاء والزملاء – اللازمة لتقييم التهديدات المحتملة؛ وأخيراً التجارب السابقة. بناء على ذلك فإن من شأن الباحث أن يضع قواعد تتعلق بالأماكن التي يمكنه الذهاب إليها؛ الأشخاص الذين يمكن الاعتماد عليهم أو يجب تجنبهم؛ كيفية التواصل مع مختلف شبكات المعارف؛ بأي شكل وفي أي مكان يمكن مواصلة تدوين الملاحظات، وغير ذلك. ستتحسن فعالية ”المنظومة“ – ما يربط بين كل هذه القرارات – بشكل ملحوظ من خلال الوعي الذاتي، سواء من جانب الباحث أو من جانب المدير. ولذلك، من المهم مراعاة السمات المتواترة التالية:
- المنظومات تتعدد بعدد الأشخاص والحالات؛
- المنظومات شخصية جداً وغريزية غالباً – فقد لا تكون عقلانية تماماً، بل مستقاة من معتقدات ومخاوف ودوائر أمان وغير ذلك مما ليس له أساس منطقي يذكر؛
- وهي تتطور مع الوقت، من خلال تراكم التجربة والخطأ؛
- كما يغلب عليها أنها غير رسمية – حتى حين يتم إنفاذ سياسات رسمية – لأن هذه الأخيرة عرضة للتجاهل أو إعادة التفسير، أو لقرارات وليدة اللحظة وأحداث غير متوقعة تقوم بتجاوزها؛
- وأخيراً وليس آخراً، المنظومات بطبيعتها غير طيّعة للنقاش الصريح، وذلك لأسباب متنوعة – تتراوح بين انعدام الثقة والخرافات وجنون الارتياب (وكل ذلك جزء لا يتجزأ من العمل في ظل الخطر) وحتى تضارب المصالح بين الأشخاص والسياسات المفروضة من أعلى لأسفل، وصولاً إلى الحرج الذي قد يشعر به أصحاب المنظومة حيال طابعها المرتجل أو المبالغ به.
والواقع أن الباحثين في البيئات الصعبة يصلون أحياناً إلى نتيجة مفادها أنه ”لا أحد يفهم“ الطبيعة الدقيقة لما يواجهونه بين حين وآخر، لذلك يغلب عليهم التزام الصمت بشأن طريقة عملهم. إلا أن هذا الصمت هو، تحديداً، العائق الأضخم: إذ لا شيء يمكن أن يعقلن ويحسّن المنظومات أكثر من النقاش البناء مع الآخرين. يمكن إجمال الدروس العامة المستخلصة من مجموعة متنوعة من السياقات ما يلي:
- من الممكن جداً أن يكون أكبر خطر عليك هو… أنت. ملفك الشخصي و/أو العمل الذي تقوم به يمثل متغيراً طارئاً في بيئة غير مستقرة، حيث يلعب الناس وفق قواعد لعبة واهية. قد تكون المخاطر المتأتية عن أخطاء ترتكبها تفوق عدداً تلك الناجمة عن أحداث خارجة عن سيطرتك. لست فقط معرضاً لإيذاء نفسك، ولكن للإضرار بالآخرين أيضاً. الخلاصة هي أن جزءا كبيراً من الخطر يتعلق بشيء خاضع لنا: مسار عملنا الخاص.
- ما من خبرة ضامنة النتائج. ثمة اعتقاد خاطئ متكرر وخطير، يتمثل في الزعم بأن قدرتنا على التعامل مع الاضطراب الأمني قابلة للتطور. لكن ليس لا شيء يمكن أن يتنبأ بكيفية استجابتنا لتهديد غير مألوف، ولا أسباب كافية أصلاً للظن بأننا سنستجيب لتهديد مألوف بالشكل المناسب. يمكن للتكرار، مثلاً، أن يستحضر عنصر رضة نفسية من شأنه أن يغير المعادلة جذرياً. على هذا النحو، البيئات المهددة تتطلب (وتفرض) التواضع.
- قوتك هي معرفة نقاط ضعفك. المفارقة أن الجزء الأصعب من العمل في ظروف خطيرة قد يتمثل في رفع راية الاستسلام. أنت بارع في ما تفعله وتشعر حياله بالحماس. لا يمكنك الإقلاع عنه حين تستعر الأمور ويكبر معناها من الناحية المهنية. كيف يمكن أن تبرر التخلي بمجرد الحدس... قبل أن يحدث لك شيء فعلاً؟ حسناً، هذه هي النقطة بالضبط. الباحثون الأكثر صلابةً هم الذين يمتلكون شجاعة العودة عندما يشعرون أنهم وصلوا إلى قصارى حدودهم الشخصية. إن الإجهاد، والإفراط في رد الفعل على أحداث بسيطة، والحس بالرهبة، كلها أسباب كافية للانسحاب. بإمكانك أنت رسم الحدود، على الأقل بقدر ما يسمح الوسط المحيط.
- الحركة مكون أساسي في أي منظومة. الوعي الذي تمتلكه ينمو بالصلات التي تنشئها وتغذيها عبر وسطك المحيط، وهو ما يعتمد على قدرتك على التفاعل المباشر مع الناس. الانغلاق في الدائرة الأولى من الأصدقاء – أو ما هو أسوأ، في البيت – هو علامة حاسمة بأن عليك إيجاد طرق أخرى للانسحاب التام.
- منظومتك تعمل حتى حد معين تتوقف عنده. قد تكون أشكال الحدس والروتين والتشبيك التي تصقلها في وقت وحيّز معين فعالة تماماً، ورغم ذلك قد تصبح عبئاً بمجرد تغيير المواقع أو الأدوار أو الأطر الزمنية. على وجه الخصوص، للأوضاع المتدهورة إيقاع معين يتطلب حساسية عالية. فلنقل أنك تعمل في ظل نظام استبدادي. في الظروف العادية، لا حاجة إلا إلى استعراضات موسمية لفرضياتك – المتعلقة بمزاج أجهزة الأمن أو توازن القوات المحلي. حين يعلو صوت السخط الشعبي بشكل جدي، قد تضطر لإعادة تقييم أسبوعية. لكن عندما تنفجر انتفاضة، يصبح لزاماً عليك التحديث بشكل يومي. ثم إذا علقت في حرب اندلعت للتو، قد يسير الوقت بعجلة أكبر؛ قد تعيش ساعة بساعة، إن لم يكن دقيقة بدقيقة. ثم في العادة تتباطأ الأمور مرة أخرى، إلى وتيرة ”العادي الجديد“ الذي قد يكون عنيفاً لكن إلى هذا الحد أو ذاك قابلاً للتنبؤ.
- اعرف أين أنت وإلى أين تتجه. معظم الأخطار لا تنبع من فراغ: بل تنحسر وتفيض وفقاً للتغيرات الكبيرة أو الصغيرة التي تطرأ على وسط المحيط أو على علاقتك به. تكمن الاستجابة الأنسب لوضع ديناميكي في فهم اللحظة التي تعيش فيها بمقابلتها مع المرحلة التي تتجه إليها: ماذا يعني هذا الانتقالعلام هذه النقلة؟ هذا المنطق ينطبق أيضاً على التحركات الفيزيائية من مكان لآخر. العمل الميداني، كما هو واضحوضوحاً، يكون في أكثر حالاته أماناً في السياقات المألوفة. من المعقول تماماً استكشاف مناطق جديدة، ولكن بشرط أن يرشدك إليها ويقر لكك عليها أناس يعرفونها.
- قم دائماً بتحليل اللامألوف. بعد أن تستوعب أساسيات الوسط المحيط، من الأهمية بمكان التوقف وتقييم أي شيء يبدو خارج المألوف: مكالمات غريبة، اعتداءات غير مبررة، صمت مفاجئ في مكان صاخب عادة، وهكذا. الهدف الأول هو أن تنظر بهدوء فيما إذا كان هناك سبب لإبداء المزيد من الاهتمام، وأن تتجنب بنزاهة كلاً من الإنكار الأعمى وهوس الارتياب. في معظم الأحيان يستحيل العثور على تفسير سريع ومقنع؛ يمكنك بعد ذلك رفع مستوى اليقظة قليلاً من باب التأهب الافتراضي، إلى أن تستجد تطورات أخرى تؤكد أو تبدّد قلقك.
- ”الظهور في القمة او التواضع والانستار“. يتطلب البقاء في بيئة محفوفة بالمخاطر أحد أمرين: إحاطة نفسك بحراس شخصيين وعربات مدرعة ومساكن مدعمة؛ أو، بالعكس، تفادي كل ما سبق لصالح الاندماج بين الناس. بالنسبة للباحث المحدود الموارد والمعتمد على التفاعل المباشر مع الناس، الخيار واضح دوماً: الاستثمار في الأصدقاء والجيران، وفي شبكة واسعة من المعارف المستعدين لمساعدتك على اجتياز المخاطر المحتملة، وعلى تقديم التنبيهات اللازمة حين تغادر عمقك الآمن. لا تحتاج إلى الذوبان التام في منطقة ليست منطقتك، وبالتأكيد أنت لا تجني شيئاً بالتظاهر بما لست عليه؛ المنقذ الحقيقي هو العلاقات الصادقة والمتسقة والحقيقية والمتنوعة. ستساعدك بعض لفتات الاحترام – مثلاً تحوير لغتك ومظهرك وسلوكك – على أن تحظى بالقبول رغم اختلافك.
- تخل عن نظرتك المرهفة لـ”الذكاء“. في الظروف الاستبدادية، يميل الباحثون غالباً إلى أن يلعبوا لعبة الجاسوس، خاصة في حال كانوا يشتغلون على مواضيع حساسة. فيقومون بتشفير الوثائق ورسائل البريد الإلكتروني، ويستخدمون الكثير من الحيل لـ”تضييع الطاسة“، ويفترضون أنهم عموماً تحت المراقبة. إلا أن الجهود المبذولة للاختباء من الأجهزة الأمنية ستضر أكثر مما تنفع، فقد ترفع إشارات الإنذار، وتستقطب اهتماماً زائداً لا داعي لاستقطابه. لذا فإن الرهان الأكثر أماناً هو التحلي بأكبر قدر ممكن من الشفافية فيما يتعلق بالمسائل البريئة وقم فقط بإخفاء الأشياء التي قد تثير التهديد. لن تكون هذه الأشياء كثيرة غالباً، وقد تنحصر في أسماء الأشخاص في محاضر المقابلات، وبضعة معلومات نادرة تنطوي على حقائق دامغة، وتفاصيل التواصل مع أشخاص عابرين من الأكثر إشكالية.
- تعرف على الدهاة من حولك. مع أن لكل حالة سياقها الخاص بها، يبقى أنه لا حاجة لإعادة اختراع العجلة كل مرة. تنوع المنظومات المذكورة أعلاه كنز دفين من الأفكار التي يمكنك محاكاتها، أو التعديل عليها، أو رفضها. لدى العديد من المنظمات تمتلك دراية عملية هائلة على المستوى الجمعي، لكنها تبقى غير مستغلة بسبب قلة النقاش والتركيز المفرط على الإجراءات. يمكن الإفادة من تجارب الآخرين لتحديد الطبيعة الحقيقية لتهديد معين. على سبيل المثال، تطرح الحرب قبل كل شيء مسائل النقد والتواصل، وذلك لأغراض الإبلاغ وتمويل التعديلات المستمرة والمكلفة التي تستتبعها. على النقيض من ذلك، يكاد يكون الاختطاف برمته مسألة صمود نفسي ومنظومات دعم خارجية، فالرهائن الذين يدركون وضعهم الخاص قليلون للغاية، وأقل منهم الذين يعرفون ما الذي يمكنهم فعله.
- التواصل الاستباقي ضروري. من أسوأ الأشياء التي يمكنك ارتكابها أن تقف لوحدك في وجه الشواغل أو المخاوف أو التهديدات الفعلية التي تنتابك. ربما ستحتاج إلى مساعدة حين تجد نفسك في ورطة، والقادرون على مد يد العون سيكونون على أقصى درجات النجاعة كلما عرفوا أكثر وأبكر. قد يكون موقعك وخطط سفرك وجداول اجتماعاتك وتفاصيل التواصل معك وتقييمات مخاطرك الشخصية مسائل بالغة الحرج. مهما كانت الأشياء التي عليك مشاركتها، وأياً كان الأشخاص الذين عليك إبلاغهم، قم بفعل ذلك باستمرار. يعني ذلك أيضاً، بصورة حاسمة، مداً لجسور الثقة بين الباحث والمدير.
المسؤولية
ومن وجهة نظر المدير، من السذاجة افتراض أن الذاهبين إلى عمل ميداني خطير مسؤولون بشكل كلي عن مصيرهم؛ في حال القبض على الباحث أو إصابته أو خطفه أو قتله أو لحاق الأذى بأناس من حوله، المدير شريك في المسؤولية من الناحيتين العملية والأخلاقية. في الوقت نفسه، لا يمكن للحل أن يقتصر على سياسات وإجراءات شكلية ميالة أكثر إلى تهريب من المسؤولية مما إلى تحمّلها.
.كلما قام الباحث والمدير بتحليل المخاطر الميدانية زادت فرص الحفاظ على رباطة الجأش حين تتعقد مجريات الأمور.
كمدير حي الضمير، ضع أربع مهام بعين الاعتبار. أولاً، لديك واجب البدء بالاستماع. كقاعدة عامة، من هو على أرض الواقع هو من يفهم البيئة على أفضل وجه، ويستشعر تغيرها، ويستقي من الموارد المتاحة لإدارة مثل هذه التغيرات، ويعرف حدوده الخاصة – بعبارة: لديه ”منظومة“. طريقتك الأضمن لمعرفة ما هو على المحك هي الاستماع لموظفيك والتعلم منهم. هذا ضروري أيضاً لكسب ثقتهم، وبالتالي النزول عند خبرتهم وحكمهم.
الأمر الثاني هو أن تتأقلم. إن كانت هناك إجراءات وسياسات نافذة مسبقاً ضمن مؤسستك، ينبغي مناقشتها وشرحها تفاصصيلها بحسب كل حالة. إدارة الأمن عملية تكرارية، وهي تتطلب حلولاً هي في العموم غير موجودة سلفاً.
ثالث واجبات المدير التدخل عند الضرورة. الأزمات التي يواجهها المرء في الميدان تستدعي أحياناً الحاجة إلى مرجعية ثابتة – وهي نقطة تحول على المدير التحضر لها. قد تكون هناك عدة أسباب للتدخل. ينبغي التغلب على أي خرق للثقة على جانبي العلاقة بين المدير والموظفين قبل التوسع في إجراء أي بحث جديد. تردد الشخص الذي في الميدان – إعرابه عن مشاعر عدم ارتياح وارتباك وضياع – هو علامة أخرى على ضرورة أن يُدلي المدير بدلوه أو يقترح خيارات جديدة أو يتخذ قرارات من الخارج.
رابعاً، لا بد من التوقع الاستباقي. ربما يفشل الباحث في تصور كافة التهديدات والاحتياطات الممكنة، لكن لا عذر للمدير. على المشرف المسؤول أن يحدد بوضوح حدود الأعباء التي ترغب المنظمة في تحملها، وبأي تكلفة، وما هي العواقب. عليه أيضاً صياغة سياسة مدروسة تتعلق بالتأمينات – على الصحة، الحياة، السفر، الاختطاف – التي سيؤخذ بها. بعبارة أخرى، على المدير أن يمتلك إجابات وافية على جميع النسخ الممكنة من سؤال ”ماذا لو؟“. وفي حال انعدام الإجابات الجيدة، عليه أن يكون مرتاحاً في المجازفة بالتوجه نحو المجهول.
12 تشرين الثاني/نوفمبر 2017
تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من: