مهارات البحث 


الذهاب عميقاً


    كيف تقوم بـ:

  • الارتقاء عن التحليلات السطحية والضالة 
  • استخلاص رؤى غنية وغير تقليدية من بحثك

في معظم الموضوعات المطروحة ليس هناك نقص في المعلومات والتحليل. ما ينقص، بشكل عام، هو الموثوقية والعمق. لا شك، ينبغي التحقق من الحقائق، واختبار النظريات، وبحث القصص جيداً. غير أن وراء ذلك سعياً إلى تعظيم التبصر وتعزيز الإنسانية – وهو التعمق الذي يصعب تحديده ويصعب تحقيقه، وإن كان ينبغي أن نحاول استشعاره. في الواقع، هذا هو المجال الذي علينا أن نحدث فيه فرقاً، لأسباب عديدة ليس أقلها رد الفعل على الضوضاء المتزايدة من حولنا.

تلبية الطلب على الجودة العالية اضطلاع قلما يكون مجزياً. تقريباً لا أحد – من أصحاب العمل للزبائن المحتملين وصولاً إلى مستهلكي عملك – سيقدّر تماماً حجم الجهد المبذول في العمل الميداني والتحليل الفائق و كثافة الموارد ، ناهيك عن دفع ثمنه. ألسنا نتذمر جميعاً من ”الأخبار المزيفة“، والصحافة الصفراء، وضحالة الخبراء، والمهارات الفائضة، وانطواء الأكاديميا، في حين نشكو في الوقت نفسه من إعلانات الدفع على المواقع وغير ذلك من المحتوى المفترض أنه مغالٍ في سعره؟ على هذا النحو، ينبغي فهم السعي باتجاه العمق على أنه رسالة مهنة – أقرب إلى الاضطلاع الشخصي منه إلى العمل المأجور. سيرتبط نجاحك في هذا المسعى بمدى استعدادك لتجاوز ما يكافأ عليه وسطياً بحسب القوانين الحالية لسوق الأفكار.

الركيزة الأساسية لأي تحليل ذي جودة عالية هي الثقافة العامة القوية، والتي هي في حد ذاتها استثمار شخصي هائل. قراءة عدد كبير من الكتب الأساسية، في فترة عمرية قصيرة نسبياً، لا يمكن أن يتم دون انضباط حديدي. يمكنك أن تتفلت من هذا الالتزام، لكنك لا تريد أن تكون ذلك الصحفي أو باحث السياسات أو الأكاديمي الذي يكتفي بتصفح ما يكتبه الزملاء أو – ما هو أسوأ – يكوّن آراء سريعة عبر قراءة المقتطفات والتعليقات. نظراً لأننا جميعاً ”مشغولون“ على ما يبدو، فإن خطر تلاقح الأفكار وانتشار الأفكار اللقيطة والمختلسة آخذ في الازدياد.

تحديداً لأن دوائرنا المهنية وشبكاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي تقفلنا في ما يشبه غرف الصدى، ينبغي على قراءاتنا أن تكون نافذتنا على العالم الأوسع – ومرة أخرى، يتطلب ذلك الكثير من العزيمة. قدرتنا على الهروب من ذلك السجن تحتاج إلى جهد صبور وحازم لن نحققه ما لم نسرق ساعتين في اليوم وقرأنا وفق خطة. تسعى الخطة لتجميع قائمة قراءة وتحديثها بشكل منهجي، ويمكن أن تتمحور حول ثلاثة مبادئ. أولاً، ما من عذر للالتفاف على الكتابات الكلاسيكية حول مجال نشاطنا المباشر. ثانياً، الانتقائية هي أعظم مصدر للتخصيب، حيث توفر جادات إلهام غير بديهية. وثالثاً، نحن جزء من ”حضارة“ كبرى تقوم منذ أجيال كثيرة بنسج المعرفة: قدرتنا على الاستفادة من هذا العمق الجمعي ستحدد عمقنا الشخصي.

ما مدى استعدادك لتجاوز ما يكافأ عليه

ولكن معرفة أشياء كثيرة لا تعني الكثير بالضرورة. من ناحية، ليست ثقافتك شيئاً تستعرضه، أو تصفّه على شكل كتب مذهلة مصممة لإثارة إعجاب الزوار، أو تعلّبه على شكل اقتباسات علمية تستعملها في مقدمة كتاباتك أو خطاباتك العامة. الثقافة الحقيقية هي البعد الأخفى لشخصيتك: فهي توفر لك أكثر المراجع وأفضلها التي تستقي منها على بينة – ليس للتألق، بل للإضاءة على أشياء محددة حيثما دعت الحاجة.

ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن يكون الاطلاع الكتبي بديلاً عن التجربة البشرية. مهما كنت ذكياً ومثقفاً، أنت في أكثر حالاتك حكمة أثناء كتابتك وحدثيك عن أشياء شاركت فيها في الواقع أو عاينتها بشكل مباشر. هنا يكتسي عمق واتساع شهرتك أهمية حاسمة. نحن نتعلم أكثر ممن لدينا معهم قواسم مشتركة أقل، ممن نحتاج إلى وقت طويل لكي نصل إليهم أو حتى نفهمهم. نحن نتعلم من اللقاءات التي تحوّلنا، وهذا التحوّل لا يحدث بسرعة. نحن نتعلم من تكرار التجربة والخطأ، ومن التغلب على تحيزاتنا ومحظوراتنا، والتي لا تتكشف لنا سوى بالتدريج وأثناء غوصنا في طبقات فهم أعمق وأعمق. الموضوعات التي تستعصي علينا، بل والتي تبدو عصية تماماً على الفهم، هي تلك التي يرجّح أن تؤتي ثماراً أكرم من غيرها.

بعبارة أخرى، يتعلق تعلم الأشياء بمنحهم فرصة لتغييرنا. قد تبدو هذه عبارة واضحة، لكنها ليست تعهداً سهلاً بالنسبة لمعظم الناس. بل هي أيضاً عملية خادعة، وقد تُفقد البعض صوابهم. من الصعب أن نختار حقاً أي الشخصين نفضّل: شخص لا يكف عن إسقاط ذاته على ”موضوع“ البحث، أو شخص ينتهي به الحال منحلاً في موضوع بحثه عبر التقليد الببغائي لآراء ”الذات“. في كثير من الأحيان، تمثل هاتان الظاهرتان معظم أشكال التعليق السائدة – ولا سيما في قضايا معقدة واستقطابية وتستجدي الفروق الدقيقة، كالحرب السورية في السنوات الأخيرة على سبيل المثال.

نحن نتعلم أكثر ممن لدينا معهم قواسم مشتركة أقل

يتحقق ”الذهاب عميقاً“ ضمن علاقة جدلية، ذهاباً وإياباً، مع ”الانسحاب“. العمل الميداني الواسع أمر لا بد منه، ولا حدود تقريباً لما يمكن أن تصل إليه. كثيراً ما نشعر بأننا وصلنا إلى هضبة عالية وأنه لم يعد أمامنا سوى القليل الذي ينبغي تعلمه. لكن في كل مرة تقريباً، ثمة قمة أخرى وغوص آخر في انتظارنا، ما يتطلب بكل بساطة رحلة مؤقتة على السهل قبل العودة مرة أخرى للانغماس في التعلم. سيتكشف عمق الموضوع حين ينضج تفكيرنا؛ حين ننفتح من خلال اللقاءات على رؤى جديدة؛ حين يتحول السياق ليخلق ديناميات جديدة؛ حين يؤدي إحباطنا المكبوت على المتاريس للتوصل لحلول إبداعية؛ أو حين تقدم لنا أعمال الآخرين أداة أو مجموعة بيانات أو اختراقاً تحليلياً لم يكن متوقعاً.

بيد أن الانسحاب والقيام بأشياء أخرى على الهامش لا يقل أهمية. يبدو أننا فعلاً نعالج التجارب والمعلومات حين نتوقف عن التفكير المتعمد بها. سيُشحذ تحليلنا أثناء الانخراط في ”دوائر“ متنوعة من التعلم، بدلاً من التركيز الضيق على مجال خبرة محدد. قد يكون لدى أعظم العلماء المتخصصين فهم محدود للغاية للعالم في حال فشل في الجمع بين معرفة كل شيء عن شيء ومعرفة شيء عن كل شيء: الاستفاضة في زاوية صغيرة من زوايا العالم مع التنقل الذي لا بد منه ضمن حياة فكرية وشخصية غنية.

في إطار هذه المقاربة العامة لتعميق رؤيتنا، ينبغي الإشارة إلى نصائح أكثر تحديداً. وهي تدور حول ما ليس عمقاً.

  • في البداية، الموضوعية خرافة. بطبيعة الحال، يجب على أي تحليل سليم أن يكون مدعوماً بشكل كامل  بالمنهجية والبحث والأدلة، ولكن تجميع هذه المكونات ببساطة يتطلب قرارات ذاتية متعددة. ذاتيتنا رصيد لنا حين نعترف بها ونُموضعها ونسخّرها بالشكل الصحيح، فهي تعطي قيمة للبعد الإنساني الذي هو جزء لا يتجزأ من أي عمل جيد.
  • الكلمات الكبيرة والمفاهيم الفارهة والأطر المعقدة غالباً ما تحجب أكثر مما تضيء. لسنا بحاجة إلى المزيد ممن يقولون أشياء بسيطة بطرق عويصة؛ بل إن الحاجة والتحدي والمواهب كلها تكمن في صياغة أفكار معقدة بلغة مفهومة. نحن عميقون حين يتردد صدى أفكارنا بعمق، وليس حين يستحيل فك كلماتنا.
  • يعني ذلك أيضاً أن العمق ليس سمة فردية: فهو يحدد نمطاً معينا من أنماط التفاعل مع الآخرين. وهو ينطوي على قدر كبير من نكران الذات، فالهدف هو تسليط الضوء على عمق الموضوع وليس على عمق الذات. لكي تتناول العالم، على الأنا التي في داخلك أن تتلاشى.
  • من الأسهل القيام بذلك حين تستقي مما لا يحصى من تحليلات الآخرين، من خلال القراءة والعمل الميداني والموجهين والزملاء وحتى المحادثات العابرة غير ذات الصلة. تتعلق مساهمتنا في كثير من الأحيان بكيفية تنظيمنا الأمور، ومن ثم أخذها مجرد خطوة إلى الأمام، والتعديل عليها بشكل أو بآخر: قيمتك المضافة هي ما يمكنك وحدك  إنتاجه من تجربتك الخاصة. بعبارة أخرى، نحن جزء من عملية جماعية تفرض علينا التواضع.
  • لهذا السبب أيضاً يعتبر العمق أكثر بكثير وأقل بكثير من مجرد الاطلاع الواسع النطاق. بالتأكيد، عليك أن تغطي جميع الأساسات الممكنة. ولكن مشاركة أشياء كثيرة جداً فقط تشوش المسألة. التحليل هو عملية تقطير، حيث يتم تحضير كميات كبيرة من المواد وتحويلها إلى جوهر، والذي على قِصَره يلتقط تعقيدات المسألة. هنا تأتي ذاتيتك، وتأتي تجربتك الحميمة مع الموضوع، ويأتي حدسك حيال الجوانب الأكثر أهمية لجمهورك المستهدف، لتلعب جميعا دوراً حاسماً. فهي مسألة تصميم صعب ومخصص، ويتطلب عادة الكثير من التفكير. أي موضوع نعرفه جيداً سنجد فيه عدة طبقات تحليل. خذ الحرب مثلاً: يمكن استيعابها من خلال المسارات الفردية، السرديات والديناميات الجماعية، التكتيكات اليومية، استراتيجيات حملات المناصرة الأوسع، المعادلة الجيوسياسية المتقلبة، السوابق التاريخية، العامل التكنولوجي، صنع وهدم العقود الاجتماعية، وغير ذلك. يطمح المحلل لفهم كل هذه الجوانب، لكن عليه في نهاية المطاف أن يقرر أي من الاستنتاجات المنفصلة تساعد على إضفاء المزيد من الوضوح على المعمعة.

على العموم، يتوقف العمق على الانتقاء، والاستنارة قبل كل شيء بالقراءة المكثفة، والتجربة غنية، والعمل الشاق في الخلفية، وأخيراً على الزاوية الملائمة بشكل خاص. لكن كيف يتشكل كل ذلك؟ الرهان الآمن هو معالجة رغبة الجمهور في فهم مسألة مثيرة للقلق العام. ما الذي قد يثير القلق في موضوع ما؟ كيف يمكن تعريف هذا القلق وتناوله وربما التغلب عليه؟ وما المفاتيح الذي تقدمها عملية البحث للقيام بذلك؟ هذا ما سيتردد صداه عميقاً – حكمة حية لكن غير تقليدية وغير متاحة لولا جهدك. 

4 آذار/مارس 2017


تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من:
Sigmund Freud by Max Halberstadt 
on Wikipedia/ public domainGradient by Pixabay / licensed by Pixabay; Layers in the sand by Martyn Gorman on Geograph / licenced by GeographCitric acid crystals under polarised light by Jan Homan on Wikipedia / public domain.
:


محتوى ذو صلة