كيف تقوم بـ:
إن كان عملك يحظى باهتمام الآخرين، فسيُطلب منك، عاجلاً أم آجلاً، صعود المنصة وإلقاء كلمة أمام جمهور، فيما يرقى لأن يكون عملاً استعراضياً، سواء كنت تعقد مؤتمراً، أو تدير حلقة نقاش، أو تعرض أفكارك أمام مجموعة راقية من الزملاء أو أعضاء مجلس الإدارة، أو تلقي كلمة كنخب تأدية لواجب اجتماعي، أو تطرح مشروعاً على ممولين محتملين. وإن كنت تأمل أن تكتفي بقراءة نص من ورقة، فمن الأفضل أن تجنب الآخرين المعاناة وترسل ما تريد قوله عبر رسالة إلكترونية وتبقى في منزلك. وإن كنت ترى في نفسك شخصاً متألقاً وبارعاً بطبعك ولا تحتاج إلى تحضيرات أو مسودات، فاسأل نفسك أولاً: إن كنتُ لا أرغب في مشاهدة مؤدٍّ لم يحضّر جيداً لعرضه، فلماذا أفرض ذلك الآخرين؟
لأدائك غاية وبنية؛ حيث تتمثل غايته، ومبرر وجوده أصلاً، في ذلك الدور الذي يُتوقع منك الاضطلاع به. وعادة ما يكون الأداء، أياً كان سياقه، مزيجاً من الإخبار والتسلية والإقناع، مغلفاً بأساليب وطرق مختلفة وفقاً لطبيعة الحدث. وفي الجوهر، تماثل تحدياته تلك التي تواجهها في الكتابة: ماذا الذي تعرفه ولا يعرفه الجمهور وينبغي أن يعرفه؟ ولماذا تعتقد أنه من المهم جداً للجمهور أن يعرفه؟ وما هي أفضل طريقة لترك بصمة راسخة في هذا السياق؟
ولتحقيق غاية الأداء الخطابي، لابدَّ وأن تلعب بنيتُه دوراً رئيسياً. أي مداخلة محكية تتكون من افتتاحية، ومتن، وخاتمة تلخص القول وتنهيه. عند إلقاء خطاب مهم، سرعان ما تؤدي الافتتاحية أغراضاً ثلاثة: فهي تبني تواصلاً مع بعض الجهات الرسمية، عبر تقديم شكر مقتضب على إتاحة فرصة التحدث، كما المعتاد؛ وتخلق، علاقة أكثر خصوصية ووجدانية مع الجمهور، متى سنحت الفرصة، عبر سرد طرفة أو نكتة أو اعتراف من نوع ما؛ وتضع إطاراً لبقية مداخلتك، عبر ذكر مدى أهمية وصلة ما تريد قوله بموضوع النقاش.
أما «النحنحة» المصاحبة لكثرة المقدمات التي لا طائل منها، فهي تفضي، إلى تململ جمهورك فحسب، وهو يتساءل عن غاية كلامك ومدى صبره لسماعك حتى النهاية. لذلك، لابدَّ وأن تكون غايتك واضحة من البداية: الافتتاحية وُجدت كي تخبر الجمهور عن سبب يدفعهم لسماعك باهتمام، وبالتالي، يجب أن يثير كلامك فضولهم لمعرفة ما ترمي إليه. وبالطبع، ليس عليك أن تقول كل شيء دفعة واحدة، بل أن تقدم نوعاً من التشويق المدروس، الذي يوحي باتجاه ما ويثير توقعات بأنك تتعهد ضمنياً بالسير بهذا الاتجاه.
ماذا الذي تعرفه ولا يعرفه الجمهور وينبغي أن يعرفه؟
بدوره، يختلف العرض باختلاف طبيعة الخطاب؛ إذ تتطلب محاضرة تستغرق ساعة كاملة كثيراً من «الحشو»، مع الكثير من التوضيحات، والاستطرادات، ومناقشة التفاصيل ودقائق الأمور، والإشارة إلى عمل الآخرين، وغير ذلك، بينما لا يملأ خطاباً ترويجياً مدته لا تتجاوز خمس دقائق سوى قوة التأثير. وعليه، لن يرتكز الإعداد لمداخلتك على طولها أو قصرها، وإنما على المدة التي يمكنك، أو يجب عليك، الاحتفاظ فيها بانتباه جمهورك. وبالطبع، ذلك الاختلاف الكبير بين التحديات التي تفرضها محاضرة في قاعة لطلاب لا خيار أمامهم سوى البقاء والاستماع، وتلك التي يفرضها خطاب في حفل عشاء حيث يتململ الناس ويفقدون صبرهم في خمس دقائق سيؤدي إلى استخدام صيغ مختلفة تماماً من الخطاب.
ومع ذلك، تنبع بنية أدائك الفعلية وإيقاعه دوماً من تسلسل حججك. وكما هو الحال في الكتابة التحليلية، تشكل تلك البنية العمود الفقري لرسالتك، وما تبقى موجود ببساطة لبعث الحياة فيها. ولهذا السبب يمكن اختزال أي خطاب محكي، سواء كان محضّراً أم ارتجالياً، إلى حجج جوهرية يمكن حفظها بسرعة أو تدوينها بدقة؛ حجتان أو ثلاث كحد أقصى، سواء كانت مداخلة قصيرة وعفوية، أم شرحاً لتشابك أدق تفاصيل مكونات نظرية معقدة في أحد الـمُدرَّجات.
ونظراً لدور هذه الحجج في تنظيم انسياب مداخلتك، لابدَّ وأن تكون بارزة وملفتة للنظر، وكأنها الجملة المكتوبة بخط عريض في فقرة ما. لكن، بالطبع، لا يسمح ذلك بالاستفاضة والتكرار، بل عليك طرح النقطة التي تريدها بسرعة وفعالية قدر الإمكان، مع بعض التفسيرات والإيضاحات الكافية لإثبات حجتك، ثم الانتقال إلى الحجة التالية بتسلسل يساهم إيقاعه بشكل كبير في جذب انتباه جمهورك. في العموم، يحدث أن يفهم الناس الفكرة بسرعة أو لا يفهموها على الإطلاق، وبالتالي، لا طائل من الإسهاب لإيصال الفكرة؛ لن يظهر ذلك، على الأغلب، سوى إشارة على قلة ثقتك بما تقول.
غالباً ما تجمع الخطابات الجذابة المقنعة تلك الأفكار التي كنت قد عرضتها وأوصلتها في مناسبات أخرى، ربما في مقابلات أو اجتماعات، وهي مكونات تشعر بالراحة حيالها، بحيث يمكنك الاختيار منها، وسردها بمزيد من الحماس، و«روايتها على شكل قصة» أيضاً. وبعد ذلك، لا يبقى أمامك سوى التركيز على الانتقال من فكرة لأخرى، وعلى الانسياب العام لمداخلتك.
وأما الخاتمة، فهي تلك الكلمات التي تتسم بنوع من التأثير وتنهي القول؛ قد تُعرِّج فيها مجدداً على افتتاحيتك وتؤكد على رسالتك الرئيسية، أو تلخص ما قلته بنوع من الذكاء والطرافة وبعبارة تأسر خيال جمهورك، أو تلجأ لنوع من الفكاهة. ببساطة، عليك أن تقول أي شيء يشير إلى إنهاء مداخلتك. وفي الواقع، تأتي قوة خاتمتك من الذروة التي يؤمل أنك وصلت إليها قبلاً عندما لخصت حجتك لتثبت وجهة نظرك.
كم هو امتياز التحدث في العلن حول القضايا التي تهمنا
وبعيداً عن الغاية والبنيته، لا يمكن أن لأداء خطابي أن يتسم بالجودة دون إضفاء لمسة شخصية عليه؛ فالآخرون يستمعون إليك باهتمام ليس لأن مضمون مداخلتك مثير للاهتمام فحسب، وإنما لأنهم يشعرون بتواصل شخصي معك. ومن هنا، تبرز قاعدة مهمة تتمثل في تقبلك، بصفتك «مؤدياً»، لضرورة إعطاء شيء من ذاتك. وقد قالها رجل أعمال يوماً، وبوضوح صارخ، بينما كان يقدم بعض الإرشادات لضيف الشرف قبل حفل عشاء لجمع التبرعات: «ليس عليك أن تبيع جسدك، ولكن عليك أن تظهر ساقيك».
لكن في الحقيقة، ما من شيء يحط من قدرك أو يشعرك بالخزي هنا؛ فما يطلبه الجمهور ليس تعرياً، وإنما شكلاً معقولاً من التواصل الحميم والصادق. وبينما لن تتعدى المساعدة التي تقدمها تقنيات مثل التنفس العميق، والوضعية، والتواصل البصري وغيرها، إزالة ما قد يعيق التعبير عن نفسك بمزيد من البراعة والعناية، فإن استخدام الكثير من التقنيات يحولك إلى روبوت آخر يتحدث على [شبكة] سي إن إن أو يلقي محاضرة من محاضرات تيد (TED). وقد يكون تقبُّل حدودك والتصريح بها، فضلاً عن مشاركة المزيد من الآراء والتجارب والشكوك الشخصية، جزءاً من خطاب جيد.
وخلاصة القول، عليك عرض نقاط قوية ومنظمة بأسلوب ودي. وأيسر سبيل لفعل ذلك هو تذكر مدى عظمة امتياز التحدث في العلن حول القضايا التي تهمنا. وإذا شعرنا بالامتنان للجمهور واستمتعنا باللحظة، سنضفي عليها متعة يشعر بها الجميع (تقريباً).
9 شباط/فبراير 2017