مهارات التواصل


ميكانيكا الهوية البصرية العربية


    كيف تقوم بـ:

  • فهم التصوير في العالم العربي
  • تطوير وعيك كمستهلك ومُنتج للمحتوى البصري

على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، وثَّقت عدسة الفنان عمار عبد ربه، المصور الفوتوغرافي المتميز، العديد من اللحظات في مجالات شتى؛ من عروض الأزياء إلى العروض العسكرية، ومن القادة السياسيين إلى المواطنين العاديين الذين ثاروا بوجههم. طوال حياته المهنية، اختار عبد ربه مواقف استفزازية متصلّبة: إدانة جماليات البؤس التي تكافئها جوائز التصوير الفوتوغرافي؛ الانحياز بموقف ثابت لا يشوبه ندم إلى الثورة السورية، والتي صورها بكل ما فيها من جاذبية وعلاّت؛ والدفع بقوة لكسر جميع الحواجز التي تحول دون التمثيل البصري في العالم العربي، عبر المعارض الفنية التي تعالج قضايا مثل عبادة الشخصية أو التابوهات المتعلقة بالجسد الأنثوي. وتُجسّد صور عبد ربه، المدروسة والمتعمقة، الكثير من "الهوية التصويرية" للمنطقة، وبالتالي كيف ترى المنطقة نفسها وكيف يراها الآخرون من الخارج..

عمار، إلى أي مدى حددت السياسة والصراع شكل استخدام التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي على مدى عقود؟

 بالعودة إلى بداية التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي، كان المستشرقون الأوروبيون هم من أدخلوه إلى المنطقة، حتى تبناه الأرستقراطيون المحليون كهواية بعد ذلك. ويمكن تتبع المصورين العرب الأوائل حتى منتصف القرن التاسع عشر، لكن معظم الصور التي تشكل رؤيتنا للعالم العربي الحديث التقطها مصورون مرافقون للقوات الاستعمارية ومراسلون صحفيون لوكالات الأنباء الأجنبية. وبدأت الأنظمة التي استولت على السلطة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي باستخدام الصور للدعاية على نحو يذكرنا بالستالينية – عبادة الشخصية، وجماليات المجتمعات النموذجية، وما إلى ذلك.

ولم يظهر التصوير الصحفي العربي، كبديل حقيقي، إلا متأخراً، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، مع الحرب الأهلية اللبنانية، حيث أثبت المصورون المحليون أهمية دورهم في تغطية صراع شديد التشعب، فضلاً عن سعي الميليشيات نفسها إلى توثيق نجاحاتها. وقد ظهر "سجل حديث للشهداء" استُخدمت فيه صور ومشاهد التقطت على الخطوط الأمامية. أما الانتفاضات الفلسطينية، والغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والثورات التي اجتاحت العالم العربي ابتداءاً من عام 2011، فقد جنحت لإخراج جيل جديد كامل من المصورين الصحفيين العرب، بعد أن أدى تدهور الظروف الأمنية لتدريب أعداد كبيرة من السكان المحليين ومدّهم بالمعدات اللازمة لتزويد وسائل الإعلام العالمية بالصور المطلوبة.

ولذا، يعد التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي سياسي في جوهره؛ فإذا طلبت من الأطفال في أوروبا تذكر الصور التي شاهدوها، فسيذكرون الإعلانات ثم صور العائلة. أما هنا في العالم العربي، فسيذكرون رئيسهم، وربما بعض صور الصراع، وفي النهاية صور الإعلانات التجارية.

لطالما كان من الصعب تصوير هذه المجتمعات بشكل طبيعي

ويعود سبب ارتباط التصوير الفوتوغرافي بالسياسة بهذا الشكل، جزئياً، إلى جميع القيود التي لطالما جعلت تصوير هذه المجتمعات بشكل طبيعي أمراً عسيراً. والأمثلة كثيرة، ففي ظل حكم بن علي لتونس، لم يكن مسموحاً للمصورين بتصوير النساء المحجبات. وفي عهد مبارك في مصر، ألقي القبض على مصورين فوتوغرافيين لطرحهم موضوع الختان، رغم أنه موضوع يهم معظم النساء هناك. وفي سوريا قبل عام 2011، لم يكن بإمكانك التقاط صور للفقر المدقع، أو الرموز الدينية، أو حتى الأحياء الراقية، حيث كان يقيم المسؤولون. لذا، كان من الطبيعي أن ينتهي بك الأمر بتصوير أشخاص يقرؤون الصحف في المقاهي، على سبيل المثال، لأن هذا هو جُلَّ ما يسمح لك النظام بنقله عن هذا المجتمع..

في معظم الأماكن حول العالم، يبحث المصور الفوتوغرافي عن "الصورة المثالية" التي تناسب رؤيته الفنية، أو عن "الصورة المُربحة" التي تلبي معايير السوق. أما في هذه المنطقة، فإنك تميل إلى البحث عن "الصورة الممكنة"، أي ما يبقى لتصويره بعد أن تستثني الرقابة جميع التابوهات السياسية والدينية والاجتماعية والجنسية.

وبالطبع، تغير هذا الوضع منذ عام 2011 مع انهيار النظام وكثرة الهواتف الذكية، حيث أصبح كل عربي مصوراً وموزعاً. وازداد شيوع الصور المستخدمة لتحدي الرموز السياسية، كما في الصورة أعلاه، والتي تصور بادرة كان من الصعب تصورها قبل الثورات. اليوم، يصور الناس ما يرونه وينشرونه غير مكترثين بالعواقب: من تصوير جرائمهم إلى عرض صور مجتمعهم دون حذف أو تعديل.

 كيف تفسر حقيقة أن التصوير الفوتوغرافي – الذي كان يعتقد بصدقه الشديد في بداياته بحيث يلتقط، حرفياً، روح الأشخاص الذين تصورهم – بات اليوم يثير الشكوك ذاتها التي تثيرها أي وسيلة أخرى؟

نسمع بالقول المأثور: "الكاميرا لا تكذب"، غير أن هذا القول كذبة في حد ذاته. لطالما حدث تلاعب في الصور، حتى أن الدول الغربية في الثمانينيات بدأت في وضع أطر قانونية لدحر الانتهاكات المنتشرة على نطاق واسع. وإلى حد ما، تعد ردود الفعل الأكثر حذراً ودقةً على التصوير الفوتوغرافي علامة على نضج الجمهور الذي لا يأخذ الأمور بمسلماتها؛ وهو أمر جيد من حيث المبدأ..

لكننا اليوم تمادينا كثيراً، حتى بتنا نشكك في كل شيء بشكل هوسي. وتعد يسرة الوصول إلى التكنولوجيا جزءاً من المشكلة: عملياً، يمكن لأي شخص أن يتلاعب في صورة باستخدام برنامج الفوتوشوب، ونشر صور مجزوءة من سياقها، وما إلى ذلك. فقد تستخدم صورة من غزة للتحدث عن سوريا أو العكس. وعلى سبيل المثال، تُظهر الصورة إلى اليمين امرأة سورية مُحافظة حملت السلاح في حلب، لكن الصورة استُخدمت إلى جانب جميع أنواع المقالات التي تتحدث عن المقاتلات الأجنبيات في الرقة أو الموصل... وفي الحقيقة، يتحمل الجمهور جزءاً من المسؤولية إذ يتلهف بشدة لقبول ما يدعم تحيزاته. لقد انتهى بنا الأمر في وضع ينطوي على قدر كبير من التناقض، حيث يمكن لأي صورة تقريباً أن تجذب خيال الناس إذا رُوّج أنها "لم تظهر على وسائل الإعلام التقليدية". وتعمل كافة مواقع الإنترنت اليوم على أساس يفترض كذب وسائل الإعلام التقليدية، مدعية أنها تنشر مواد أكثر موثوقية – والتي عادة ما تكون مفبركة. وتحاول هذه المواقع إثبات كذب الإعلام بالكذب أيضاً، ولكن كذبها يُكشف رغم محاولاتها تلك. وبهذه الطريقة تحصل على صور من حج الأربعين في العراق يُعاد نشرها على أنها "صور لثلاثين مليون مسلم في مظاهرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية لم تُرد وسائل الإعلام التقليدية لك أن تسمع عنها"؛ إنها حلقة مفرغة تقوض الثقة أكثر فأكثر.

التصوير الفوتوغرافي وسيلة يمكنها التواصل بشكل مباشر مع الناس

لقد وصلنا إلى مرحلة حيث يقول لي الناس "لم يعد بإمكاني تصديق أي شيء بعد الآن ...". لكن ذلك غير منطقي أيضاً، فمن الضروري، والممكن، أن نصل إلى نوع من التوازن. ومع التكنولوجيا الحديثة، بات من السهل جداً تتبع أصول الصورة وإساءة استخدامها. وبالإضافة إلى ذلك، ثمة قواعد أساسية ينبغي على الأشخاص الاطلاع عليها، سواء كانوا منتجين أم مستهلكين للصور: ليس من قيمة للصورة إن لم تُرفق بتاريخ وتعليق يوضحها، وكلاهما يمكن التحقق منه؛ تحديد السياق أمر أساسي؛ وثمة خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، كإزالة أي مكون من الصورة. وفي هذا الشأن، يغدو التثقيف البصري، سواء في المدارس، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو التلفاز، أداة بديهية.

ما الذي يجعل صورة تُفعّل "تثقيفاً بصرياً" معيناً يحدد الطريقة التي ينظر بها المشاهد إليها؟

تعتمد الصورة على سياق ثقافي أوسع يضعها في منظورها الصحيح. على سبيل المثال، قد توحي صورة بجميع أنواع الأطر المرجعية الثقافية: الحركات الفنية الكبرى، الأنماط الشخصية للفنانين والمصورين المشهورين، الأيقونات الدينية والسينمائية، وغير ذلك. وتقدم هذه الخلفية كثيراً من المعنى للصورة. وهنا تتمثل قدرة المشاهد على اكتشاف هذه التأثيرات واستخدامها كأدوات تفسيرية في ما أسميه "التثقيف البصري".

علاقتنا ببيئتنا البصرية علاقة نبنيها مع مرور الوقت، بدءاً من الطفولة. يناقش الأطفال الأوروبيون بشكل نقدي الصور والأعمال الفنية في المدرسة، ويزورون المتاحف والمعارض، مطورين رهافة إحساس تجاه أنماط مختلفة،فتراهم بطبيعة الحال يقرنون التصوير الفوتوغرافي بالأبيض والأسود بالجودة العالية، على سبيل المثال، بينما يفعل المشاهدون العرب العكس تماماً. البيئة البصرية نفسها يشكلها الجمهور المستهدف؛ إذ يتسم إعلان تجاري يستهدف جمهوراً مثقفاً بصرياً بمزيد من التعقيد، بينما يكون أكثر بساطة عند توجيهه لجمهور آخر.

التصوير الفوتوغرافي وسيلة يمكنها التواصل بشكل مباشر مع الناس، الذين قد يشعرون بالحماس أو التمرد أو يتأثرون بها بطريقة أخرى، بغض النظر عن مستوى ثقافتهم البصرية. لكن الماهية المحددة لردود أفعالهم ستكون مختلفة جداً بناءً على هذه الثقافة. وإذا أخذنا هذه الصورة على سبيل المثال، بعض الناس ينظرون إلى الجندي الأمريكي فيها باعتباره رمزاً للغطرسة، ما يبرز مشاعرهم العدوانية بصورة ملحوظة، بينما يُصدم البعض الآخر، أولاً وقبل كل شيء، بحجمه الصغير – لطخة بشرية ضاعت في ضخامة الأحداث، ضئيلة أمام المخطط الأكبر لتاريخ العراق وحضارته.

وقد يكون لهذه الاختلافات أساس ثقافي وجغرافي. يُعرب الأشخاص في البيئات المختلفة عن "تطلعات" تصويرية مميزة. على سبيل المثال، فإن تصوير العنف الصريح الفج في بيئة أوروبية هادئة أمر مستحيل. لكن في العالم العربي، الذي تشبّع بكل أنواع العنف، يتوقع الناس ذلك، وكأنهم يقولون "هذا ما نمر به، وهذا ما يجب أن نظهره" – حتى وإن انطوى على أجزاء جسد متناثرة أو أطفال موتى. في حلب، على سبيل المثال، لم يستطع المصورون السوريون أن يفهموا لماذا لم تلقَ الصور التي التقطت أفضل ما يمرون به قبولاً على الإطلاق في السوق الغربي.

بشكل عام، تعد العلاقة مع التصوير الفوتوغرافي في المنطقة العربية أكثر بساطة منها في الأوساط الغربية. عادة ما تنشر الصحف العربية، التي لا يوجد في معظمها محرر صور رسمي، صوراً تكرر ببساطة ما يقال في النص. وهنا، لا يُرى في الصور أكثر من قيمة توضيحية أساسية، وهو ما ينعكس في عدد المرات التي تُستخدم فيها بدون احترام لحقوق النشر، أو السياق، أو التعليقات التي توضحها... أما في أوروبا، فتستثمر المنشورات في التصميم الغرافيكي وتتباهى بالسياسات البصرية الطموحة. وفي هذا السياق، تميل الصورة إلى تقديم إضافة ما والتعبير عن ذاتها بذاتها، وهذا ما يُرجع اختيار العديد من صور الأغلفة إلى قدرتها التعبيرية الفريدة، وليس علاقتها المباشرة بعنوان ما..

وتبرز أهمية قضية التثقيف البصري المتأخر في العالم العربي في جانبين على الأقل. أولهما، أن التصورات والآراء حول المنطقة تتأثر بعمق بالصور الصادرة عنها، والتي تحتل مساحة غير متناسبة في وسائل الإعلام العالمية، وتساهم في كثير من الأحيان في تشكيل تصورات مختزلة. ورغم أن العديد من الجوائز تذهب إلى صور مؤثرة من المنطقة، يبقى على المنطقة أن تلعب دوراً أكثر نشاطاً في تصوير نفسها بشروطها الخاصة. لكن العالم العربي، في الوقت الراهن، لم يصل إلى درجة كافية من الكفاءة والاستعداد: لم يصل فهمنا للتمثيل البصري لدرجة تكفي لإنتاج ونشر الصور التي تناسبنا.

وأما الجانب الآخر، فيتمثل في حقيقة أن الناس تكون أكثر عرضة للتلاعب في غياب تثقيف بصري حقيقي. عندما يفشل الناس في تحليل صورة والتشكيك فيها، يميلون  إلى رفضها بالكامل، أو على العكس تماماً، قبولها كما هي. وهذا أمر استطاعت ما تسمى بـ"الدولة الإسلامية" (أو داعش) أن تستغله لصالحها، حيث عملت على  إنتاج مواد بصرية متطورة كان لها تأثير قوي على الأشخاص ذوي القدرة المحدودة على تفسيرها.

1 تشرين الثاني/نوفمبر 2017


تم استخدام الصور  Ammar Abd Rabbo photographs بترخيص من: ammar@ammar.com.


محتوى ذو صلة