تشبه الطبقة الوسطى في لبنان نظيراتها في البلدان الأخرى من معظم النواحي، فأبناؤها يرتدون أحدث صيحات الموضة الغربية، ويعيشون نمط حياةٍ استهلاكي، ومعظمُ ما يشترونه من السلع مستورد، ويخرجون إلى السينما والمطاعم والشواطئ. في حال أخذها بالمجمل، تساعد هذه الطبقة في رسم ملامح دولةٍ ذاتِ دخل متوسط وقطاع خدمات نشط يخدم قوة عاملة متعلمة كما تخدمه هي بدورها؛ لكن كما هي الحال في لبنان في كثير من الأحيان، فإن المظاهر قد تكون خادعة. في هذا السياق بالذات، تستند صورة الطبقة الوسطى التي يمكن الاعتماد عليها إلى مجموعة معقدة من الالتواءات التي يلجأ إليها المواطنون للحفاظ على مستوى معيشتهم، التواءاتٍ سرعان ما سيتبين أنها غير كافية إذا ما حدثت صدمة اقتصادية ما.
منذ سنوات والطبقة الوسطى في لبنان بالكاد تتدبر أمرها في ظلّ اقتصاد متآكل يتسم بنمو طفيف (1٪ أو أقل في عام 2016) وارتفاع في معدلات البطالة، وخاصة بين الشباب. ينتهي الأمر بالعديد من الأسر إلى إيجاد أساليب خلاقة ومعقدة لمواجهة هذه التحديات. من ناحية، تعتمد هذه الأسر على مصادر دخل متعددة؛ إذ يجمع الشباب في كثير من الأحيان بين وظيفة بدوام كامل ووظيفة ثانية من أجل إعالة أنفسهم وأسرهم، مما يؤدي إلى رفع ساعات العمل إلى 100 ساعة في الأسبوع. كما أن الاعتماد على شبكات الدعم الاجتماعي واسع الانتشار، حيث يعتمد الكثيرون على التحويلات المالية من أقاربهم المغتربين، والمساعدات النقدية من جيل إلى آخر، واقتراض المال من الأصدقاء. كثيراً ما تُستخدم القروض الشخصية لسد الفجوات في الدخل بدلاً من تمويل مشاريع استثنائية، والطلب على هذه القروض كبير لدرجة أن البنوك تفرض عليها أسعار فائدة تصل نسبتها إلى 15%.
على الجانب الآخر من الميزانية، يوازن العديد من لبنانيي الطبقة الوسطى ميزانياتهم من خلال إيجاد الثغرات واستنباط الحلول، فيتهرب البعض من دفع فواتير الكهرباء بسبب عدم وجود عداد أو من خلال استجرار كهرباء من شبكة الدولة بشكل غير قانوني؛ كما يستفيد آخرون من المساكن ذات الأسعار المتدنية جداً بسبب ما يسمى بنظام "الإيجار القديم" الذي يستند إلى قانونٍ سُنَّ في نهاية الحرب العالمية الثانية وجرى تمديده في عام 1992، وبموجبه جُمدت عقود الإيجار الموقعة قبل ذلك العام حتى هذا الحين، ما أدى إلى وجود إيجارات سنوية تقلّ عمّا يدفعه معظم الناس في السوق المفتوحة شهرياً؛ كما يلجأ البعض الآخر إلى الرعاة السياسيين لتغطية فواتير العلاج أو للحصول على منح دراسية لأبنائهم. تساعد هذه التشوهات المستشرية في تقليص نفقات الأسرة بما يكفي للحفاظ على مستوى الطبقة الوسطى.
الإحصاءات الرسمية في هذا المجال، كما هي الحال في أي مجال آخر في لبنان، هي إحصاءات انطباعية ليس إلا. تشير الأرقام المتوفرة إلى أن كل لبناني من أصل اثنين ممن يعملون في القطاع الخاص يجني أقل من 15 مليون ليرة لبنانية، أو 10،000 دولار في السنة. ومع ذلك، يعمل ما يقرب من 50٪ من القوى العاملة النشطة ضمن الحدود الضبابية للقطاع غير الرسمي، والذي لا تتوفر أية بيانات موثوقة عنه. وبالمثل، لا تتوفر إحصاءات فيما يتعلق بموظفي الدولة الذين يقال إنهم يمثلون 15٪ من إجماليّ القوى العاملة.
غير أن الصورة ستتضح أكثر إن تفحصناها عن كثب وبتفصيل أكبر، ولهذه الغاية تحدثت سينابس مع مجموعة متنوعة من لبنانيي الطبقة الوسطى فرسمت ملامح العديد من الشخصيات النمطية (الحقيقية وغير الحقيقية) التي بإمكان أيّ شخص يعيش في لبنان التعرف عليها.
فادي
يعمل فادي (جرى تغيير جميع الأسماء) ما مجموعه 65 ساعة أسبوعياً، بين وظيفته في مصنع ومهنته الثانية كناطور بدوام جزئي. بدخل شهري إجمالي قدره 1500 دولار. يتمكن فادي من إعالة نفسه ووالديه اللذين بلغا سنّ التقاعد دون أن يتمكنا من المطالبة براتب تقاعدي، ويقول: "نعيش في مبنى بُني حديثاً على بعد نحو 20 دقيقة من بيروت، لذلك لا يوجد عداد كهرباء أو ماء، لكني أدفع الكثير من أجل مولد الكهرباء"، وهو مكمل أساسي لانقطاع التيار الكهربائي. يقول فادي إنه قد لا يتزوج رغم أنه في أواخر العقد الثالث من عمره: "ليس لدي القدرة المادية كي أتزوج من امرأة لبنانية تتوقع ظروفاً معيشية لا أستطيع توفيرها. خطر ببالي أني قد أتزوج امرأة سورية، فهي لن تطلب مني ما تطلبه الزوجة اللبنانية."
علياء
تعيش علياء مع أختها في ضاحية بيروت الجنوبية، وتجني الامرأتان معاً ما مجموعه 1100 دولار شهرياً. يدفع شقيقهما إيجار سكنهما الذي يبلغ إجماليّه مليوني ليرة لبنانية - أو نحو 1300 دولار أمريكي - كل أربعة أشهر. علاوة على خطة التأمين الصحي السنوية البالغة 1390 دولاراً، تنفقان شهرياً ما متوسطه 247 دولاراً لتغطية مصاريف صحية غير قابلة للاسترداد. تَعتبر علياء وأختها نفسيهما محظوظتين لأن شقيقهما يرسل لهما أيضاً تحويلات منتظمة تسدان بها الفجوة بين إجماليّ دخلهما البالغ 1433 دولاراً ونفقاتهما المقدرة بـ 1680 دولاراً.
ريم
يعمل ابن ريم في شركة خاصة براتب شهري قدره 1000 دولار، وهو الراتب الوحيد لأسرة مكونة من خمسة أفراد؛ لكن ريم تعتمد على مبلغ إضافيّ قدره 1500 دولار من اثنين من أبنائها المغتربين، كما أنها تستفيد من ميزة الإيجار القديم الذي يسمح للعائلة بالعيش في بيروت مقابل 800 دولار في السنة؛ كما أنهم يستفيدون من خطة تأمين زوجها التي يدفعها له آخِر ربّ عمل قبل أن يتقاعد، وهي شركة كبيرة متعددة الجنسيات. لا يوجد هامش كاف للتنفس بين دخل شهري قدره 2500 دولار ونفقات الأسرة التي تبلغ 2،309 دولاراً، لذا تستخدم ريم بطاقة ائتمان قدمها لها ابنها عندما التخطيط لاستثمار أكبر من قبيل شراء ستائر جديدة لغرفة المعيشة.
بول
ما يخفف عن بول هو أنه وجد وظيفة ثانية أفضل؛ فقد عمل سابقاً كنادل في حانة في حي مار ميخائيل، وترك العمل بعد أن عمل بضعة أشهر دون أن يحصل على أجر. يعمل بول اليوم كنادل في مقهى نهاراً، وفي ملهى ليلي فاخر ليلاً، ليقضي ما مجموعه 100 ساعة عمل في الأسبوع، وبراتب إجمالي قدره 1700 دولار شهرياً. كما يرسل شقيقه 300 دولار شهرياً من الخليج لدعم والديه اللذين يعيشان معه. إن ما تجنيه الأسرة حالياً يكفيها، غير أنّ بول ظلّ يستدين بانتظام حتى وقت قريب، وكان في معظم الأحيان يقصد الأصدقاء ليستدين منهم بضع مئات من الدولارات؛ كما اقترض ذات مرة من بنك لدفع تكاليف علاج والده في المستشفى، ولا يزال يدفع قسطاً شهرياً لهذا القرض الشخصي، وفي ذلك يقول: "لقد كان ذلك قراراً سيئاً لأن فاتورة العلاج البالغة 7500 دولار تحولت إلى 12000 دولار بعد إضافة الفوائد والرسوم المصرفية."
مما لا يثير الدهشة أن يعرف هؤلاء وغيرهم تفاصيل ميزانيتهم جيداً، فيُظهرون في واقع الحال انضباطاً كبيراً يعكس افتقارهم لهامش المناورة فيما يتعلق بالميزانية، وهذا ما يفرض عليهم مفاضلات دائمة بين أنماط الاستهلاك المختلفة المرتبطة بالطبقة الوسطى. بالإضافة إلى تأثير هذه الدينامية الجليّ على حياة هؤلاء الأفراد، فإنّ لها أيضاً آثاراً سياسية مباشرة.
فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية، وَضَعَ لبنان نفسه في حالة من الشروط المتضاربة؛ فنموذجه الحاليّ القائم على الدين العامّ الآخذ في التعاظم لا يمكن له أن يستمر بأي شكل من الأشكال، الشيء الذي تم إثباته في أماكن أخرى في العالم. من المرجّح أن تؤدي الديناميات الحالية في نهاية المطاف إلى انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، ما سيؤثر بشدة على القوة الشرائية لسكانٍ جلُّ ما يستهلكونه من سلع هو مستورد؛ وليس أقلها المواد الغذائية والأدوية. أيّاً كانت الإصلاحات التي يجري طرحها، كزيادة ضريبة القيمة المضافة أو إلغاء نظام "الإيجار القديم"، لن تجديَ هذه الإصلاحات نفعاً لتفادي حدوث أزمة هيكلية، بل ستزيد الضغط على اللبنانيين الذين يحتاجون إلى كل دولار يجنونه بشق الأنفس؛ كما أن أكثر التغييرات طموحاً، كزيادة تحصيل الضرائب، أو تحويل قطاع الكهرباء من آليةٍ خدميةٍ يشوبها الهدر والفساد إلى مزوّد خدمة عصري، قد تؤدي، على الأقل خلال المراحل الأولى لهذا التحوٌل، إلى زيادة الضغط الاقتصادي الذي يعاني منه الكثيرون حالياً.
باختصار، ترزح القوة العاملة في الطبقة الوسطى التي تغذي الاقتصاد اللبناني تحت ضغوط كبيرة لدرجة أنّ أية صدمة كبيرة قد تجرّ عليها عواقب وخيمة. يزعم العديد من الشباب الموهوبين الذين يبحثون عن فرص خارج لبنان أنهم سيبقون فيه إن استطاعوا كسب عيشهم فحسب؛ وعلى نفس المنوال، فإنّ الكثير من الموظفين الذين اختاروا البقاء في لبنان يؤكدون أنهم سيضطرون إلى مغادرته إذا ما ساءت الأمور قليلاً؛ لذا فإنّ على أية صياغة لسياسة ناجحة أن تراعيَ تأثيرها على مستويات المعيشة وأن تكون مصحوبة بتدابير تخفف من وطأتها.
من حسن حظ لبنان أنه يتمتع بشركاء دوليين يستثمرون معاً مئات ملايين الدولارات في برامج التنمية؛ بعضها يمكن إعادة استخدامه لتوفير مثل هذه التدابير المصاحبة. كما هي الحال الآن، فإن حاجة لبنان الماسة للإصلاحات الاقتصادية الهيكلية يضعف تأثير هذه البرامج في أية حال. إنّ ربط العمل التنموي بالإصلاحات الاقتصادية وفر طريقة معقولة للمضي قدماً، ما يبدد بعض مخاوف النخبة الحاكمة التي تخشى حدوث ردّ فعل عنيف داخل قاعدتها الشعبية، ويتيح للمانحين عائدات استثمار أفضل. ربما كان تحقيق "الكفاف" هو التحدي الذي سيواجه لبنان في قادم السنين، لكنّ ذلك لا ينبغي أن يُلقى كاملاً على كاهل الطبقة الوسطى التي يُظهر أفرادها أقصى درجات المرونة في سبيل تغطية مصاريفهم.
تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من: