في 9 تشرين أول / أكتوبر، وبعد سبعة شهور من الأخذ والرد، صوّت البرلمان اللبناني على قانون ضريبي جديد كان قد طُرح كإجراء ضروري لمعالجة مشاكل البلاد الاقتصادية، غير أن المناقشاتِ المستفيضة لم توضح ما الذي سيفعله هذا الإجراء بالضبط، وبأي ثمن، ومن سيطال. طغى طول العملية وتعقيدها على المشاكل الجوهرية في نظام الضرائب في لبنان والاقتصاد الكلي بالمعنى الأوسع. مما لا شك فيه أن هذه المشاكل ستظل موجودة عندما ينقشع الدخان، وقد تغدو أسوأ مما كانت عليه في بادئ الأمر.
كما هو الحال غالباً في لبنان، تحولت الإجراءات التشريعية إلى ما يشبه الملحمة. في بادئ الأمر طرح البرلمان في آذار / مارس 2017 مشروع قانون يتضمن 22 تغييراً في القانون الحالي، كان من أبرزها زيادةٌ في ضريبة القيمة المضافة قدرها نقطة واحدة، أي من 10 إلى 11٪، والتي أصبحت السمة المميزة للتشريع. قوبل هذا الاقتراح باستنكار حفنة من السياسيين وأدى إلى احتجاجات لم تستمرَّ طويلاً في بيروت بين المواطنين الذين رأوا في هذا الإجراء وسيلة لعلاج المشكلات الاقتصادية في لبنان على حساب عامة اللبنانيين.
غير أن البرلمان أقرّ القانون في 20 تموز / يوليو، ليدخل حيز التنفيذ بعد شهر واحد إلى أن جمده المجلس الدستوري في 31 آب / أغسطس، ثم ألغاه في 20 أيلول / سبتمبر، فما كان من النواب إلا أن مرروا نصاً جديداً يحمل تحديثات تجميلية في 9 أكتوبر / تشرين أول. قال مستشار لحزب الكتائب، وهو أكثر الأحزاب معارضة لهذه الخطوة: "إنّ ما فعله السياسيون هو أنهم غيروا العنوان وألغوا الضرائب الزائدة." [أي الضرائب المتكررة على نفس العناصر]، كما عالج هؤلاء جوانب القصور الإجرائية التي أضعفت في نهاية المطاف القانون الذي طُرح في تموز / يوليو. في تلك الأثناء، سئم عامة اللبنانيون من الأمر برمته، وبدا أنهم استسلموا لأيّ نتيجة.
كان العجز العامّ الآخذ في التعاظم هو الحجة الرئيسة وراء الزيادات الضريبية، عجزٌ قدّرته العديد من الهيئات اللبنانية والدولية بما يصل إلى 10٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام 2016، والذي بدا أنه سيتفاقم في أعقاب تطبيق جدول جديد لمرتبات الموظفين المدنيين في آب / أغسطس بتكلفة تقدر ب 917 مليون دولار سنوياً. لهذه الغاية، سعت بيروت إلى تحصيل إيرادات إضافية من خلال الضرائب.
غير أن التغييرات المقترحة تعاني من أوجه قصور واضحة، ومن أكثرها وضوحاً هو التهرب الضريبي المستشري في المجتمع اللبناني بكافة مستوياته، الأمر الذي سيقيد أي جهد يرمي لتقليص العجز من خلال زيادة الضرائب، وقد يحفز بالفعل أشكالاً جديدة وخلاقة من التهرب الضريبي. علاوة على ذلك، لن تفلح الزيادات الضريبية في معالجة الإنفاق العامّ غير الفعال الذي غذّى الأزمة الاقتصادية في لبنان منذ أمد بعيد. على العكس من ذلك، قد تمدّ هذه الزيادات بيروت بهامش يكفي لمواصلة الانغماس في أسوأ الممارسات الاقتصادية الكليّة. لا بد لموازنة الميزانية، في نهاية المطاف، أن تُستمد من إنفاق أكثر ذكاءً ومن تحسين تحصيل الضرائب، لا من خلال رفع معدلات الضرائب.
كانت الحجة الأكثر خداعاً – لا سيما الحجة التي روّجت لها وزارة المالية – تتمثل في أن النظام الجديد سيؤثر بشكل أساسي على اللبنانيين الأكثر ثراءً، وأنه لن يمسّ من هم دونهم حالاً. صحيح أن ضريبة القيمة المضافة تستثني البضائع الأساسية مثل الخبز أو الأرز أو منتجات الألبان، لكنها تستثني أيضاً الأحجار الكريمة واليخوت والقوارب الشراعية. والأهم من ذلك، لا يعالج القانون الجديد، وربما يفاقم في الواقع، الطبيعة الرجعية للنظام الضريبي في لبنان، أي حقيقة أن قانون الضرائب اللبناني يلقي عبئاً ثقيلاً على كاهل اللبنانيين ذوي الدخل المنخفض أكثر من نظرائهم الأثرياء.
يُعزى قَدْرٌ كبير من هذا الاتجاه إلى الأهمية البالغة، في السياق اللبناني، لما يسمى "الضرائب غير المباشرة" المفروضة على السلع والخدمات، على عكس الضرائب المباشرة، مثل ضريبة الدخل التي يدفعها المواطنون للدولة مباشرة. تشكل الضرائب غير المباشرة أكثر من نصف ميزانية الدولة اللبنانية، وتؤثر بشكل غير متناسب على الأسر اللبنانية ذات الدخل المتوسط والمنخفض التي تنفق جزءاً كبيراً من دخلها - إن لم يكن كامل ميزانياتها - على تلك السلع والخدمات. على النقيض من ذلك، يميل أصحاب الدخل الأعلى إلى الادخار أو الاستثمار، ما يقلل من نسبة ما ينفقونه من ثروتهم على الاستهلاك. بدلاً من تصحيح الخلل الكبير بين الضرائب غير المباشرة والمباشرة، يعزز قانون الضرائب الجديد في الغالب هذا الاتجاه من خلال زيادة ضريبة القيمة المضافة والرسوم غير المباشرة الأخرى التي تثقل كاهل المواطنين الأكثر فقراً.
علاوة على ذلك، فإن عملية تعديل قانون الضرائب المعقدة وغير الشفافة في لبنان تخلق تشوهات شتّى في اقتصادٍ يشوبه أصلاً الغموض وغياب التنظيم. تؤثر هذه التشوهات بدورها، بشكل أساسي، على الطبقات الوسطى والدنيا. طوال أشهر، توقع اللبنانيون ارتفاع الأسعار، ما دفع الفاعلين الاقتصاديين - من محلات السوبر ماركت المحلية إلى المدارس الخاصة – إلى التخطيط لتعديلات بغضّ النظر عن الطبيعة الدقيقة للسياسات الحكومية. وَصَفَ شاب لبناني وضعاً سريالياً في متجره الصغير بقوله: "زاد المالك من رصيد الهاتف بمقدار 5000 ليرة لبنانية، وقال إن ضريبة القيمة المضافة قد ارتفعت رغم أن القانون قد جُمد في واقع الأمر." في اقتصاد غير رسمي إلى حد كبير، لا تدفع كثير من الشركات الصغيرة ضريبة القيمة المضافة ولا تجمعها، لكنها حريصة، رغم ذلك، على استغلال الفرصة لرفع أسعارها، لا لشيء سوى أنها تعاني من اقتصاد متعثر.
بالرغم من حاجة النظام الضريبي في لبنان إلى إصلاح شامل، لا تقدم الإجراءات المذكورة أعلاه سوى القليل لمعالجة العيوب الهيكلية في نظام يغذي واحداً من أسوأ أشكال عدم المساواة في العالم. خلال العقدين الماضيين، كدّست نسبة ضئيلة من السكان الثروة في حين عانت الأغلبية من تدهور ظروف المعيشة. على الرغم من تضاعف إجمالي الناتج الاقتصادي، أو إجمالي الناتج المحلي للفرد، بأكثرَ من الضعف بين عامي 2000 و 2014، تكبّد النصف السفلي من السكان انخفاضاً كبيراً في ثروة الفرد خلال الفترة نفسها - من حد سنوي أقصى قدره 6519 دولاراً للشخص البالغ في عام 2000 إلى 6175 دولاراً أمريكياً في عام 2014. قد يمكّن قانون الضرائب الحكومة من موازنة ميزانيتها وقد لا يمكّنها؛ لكنه بالتأكيد لن يساعد معظم الأسر على فعل ذلك.
هناك تخوف محسوس (وله مبرراته) داخل الطبقة السياسية من حدوث أزمة اقتصادية متفاقمة، ومن الغضب الشعبي الذي قد تثيره هذه الأزمة على الأرجح. راحت الحكومة اللبنانية تلقي باللائمة على الأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين الذين يستضيفهم لبنان، وتركّز ردها على قانون الضريبة على الرغم من أن الصلة بين هذه الزيادات الضريبية وعيوب الاقتصاد الهيكلية العميقة صلةٌ ضعيفة في أحسن أحوالها. زعم رئيس الوزراء سعد الحريري أنه لو لم يُقرَّ القانون، "لانهارت الليرة [اللبنانية] بعد ستة أشهر." ربما تكون الليرة اللبنانية في توازن غير مستقر فعلاً، وذلك لأسباب سبرتها سينابس بإسهاب، لكن اللغز النقديّ في لبنان، ذاك اللغز العويص، يستدعي إصلاحاً هيكلياً جوهرياً، لا العبث بقانون الضرائب.
Iفي التحليل النهائي، يبدو من المعقول أن تختار بيروت التركيز على الضرائب، لا لأنها تتعلق بشكل خاص بأوجه القصور الاقتصادية في البلاد، بل لأن هذه الزيادات كانت الشيء الوحيد الذي يمكن للسياسيين اللبنانيين أن يتفقوا عليه في ظل نظام تخلقُ الإصلاحات الأهم فيه كل أنواع تضارب المصالح المُعيب. نظراً لعدم قدرتها على رسم أية سياسة اقتصادية متماسكة، سدّت الحكومة الفراغ بعملية شكلية تهدف إلى خلق انطباع بأن هناك حركة ما، ولو صحّ أن هناك حركة ما، فقد انتهى بها الأمر في الاتجاه الخاطئ.
تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من:
Houses of Parliament in the Fog by Claude Monet, oil on canvas, 1903, High Museum of Art / public domain;
Smoke screen 01 by Alexander W