مهارات التواصل


مواجهة مصر 


    كيف تقوم بـ:

  • إدارة صحافة مستقلة ونوعية في مصر
  • الحفاظ على موقع اعلامي مستقل ومحظور في سياق استبدادي متزايد

خلّفت ثورات الربيع العربي، رغم كل أعمال العنف التي تلتها، إرثاً من المشاريع الإعلامية الجريئة والمبدعة؛ من دونها لكان الفضاء العام في الشرق الأوسط قد تشكّل على صورة أنظمة فاشلة تقتصر استجابتها للاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة على القمع والدعاية في الغالب. في مصر، تكافح الصحيفة الإلكترونية اليومية "مدى مصر" بجد لحماية ما تبقى من حرية التعبير، حيث حُظرت الصحيفة، التي تأسست في يونيو 2013 في خضم اشتعال المظاهرات الحاشدة التي أدت إلى استيلاء المؤسسة العسكرية على السلطة، رسمياً في البلاد. ومع ذلك، لا يزال طاقم عملها يعمل من خارج القاهرة، متجاوزاً الحدود حيثما أمكنه ذلك.

تتمتع الصحفية لينا عطاالله، أحد مؤسسي الصحيفة ورئيسة تحريرها الحالية، كما غيرها من العاملين في هذا المجال، بعزيمة لا تفتُر. وبحماستها المميزة، تصف عطالله كيف تحافظ صحيفة مدى مصر على قدرتها الفريدة في إنتاج التقارير ذات الجودة العالية واستمرار تدفقها حتى في بيئة خانقة..

كيف تعمل مدى مصر على صنع بصمتها المميزة، وما هي جوانب الصحافة التي تحرص، كفريق، على إعادة ابتكارها؟

بصفتنا منفذاً إعلامياً مستقلاً بموارد محدودة، أعتقد أن ما يميز مخرجاتنا هو أننا نواصل جمع الأخبار والتحقيق في المعلومات حتى نحصل على قصة مُتحقق من صحتها لنشرها، بينما نصبّ تركيزاً أقل على التحليل، الذي يوجد الكثير منه في العالم العربي، لأننا نعتقد بعدم وجود ما يكفي من العمل التجريبي الفعلي هناك؛ ومسؤوليتنا تتمثل في إصلاح ذلك. كما يستهوينا استعارة بعض تقنيات البحث من الأوساط الأكاديمية، حيث أن جدار الفصل بين التخصصات أمر منافٍ للمنطق. وقد حدث مرة أن أخبرت أحد الصحفيين بأنني سأوظف باحثاً لدراسة ملف قضية كبيرة حول اغتيال سياسي مهم في مصر، مفترضة أن الصحفي سينفر من فكرة قراءة خمسة آلاف صفحة من المصطلحات القضائية، ودراستها وكتابة قصة بالاستناد إليها، لكنه قال لي: "حسناً، إذا جُرِّد الصحفيون من دورهم البحثي، فما الذي يتبقى من مهمتهم؟". وانتهى به الأمر إلى الغوص في ملف القضية بنفسه..

لا يوجد ما يكفي من العمل التجريبي الفعلي هناك

في الوقت نفسه، نحاول الاستثمار في الكتابة القوية عبر التحرير الدقيق، ونهتم عموماً بكافة أشكال وصيغ المواد المقدمة، سواء كانت نصيّة أو سمعية بصرية. وقد نكون تقليديين في طرق جمع الأخبار وسرد القصص، غير أننا نعمل على التجريب فيما يتعلق بالشكل والصيغة؛ فنحن لا نقوم بمجرد محاكاة لأي أسلوب أثبت نجاحاً مع الآخرين، وإنما تنصب غايتنا على تطوير أسلوبنا الخاص للتأثير في جماهيرنا وإشراكهم؛ وهو تحدّ جميل..

ما هي مظاهر تغير الجمهور في السنوات الأخيرة، وما الدروس التي تعلمتموها حول إشراك جمهوركم؟

في المقام الأول، لا بدَّ لي أن أقول إننا نستفيد من جمهور طوّر شهية نحو محتوى إعلامي جيد ومستقل في أواخر التسعينيات، عندما خفف نظام مبارك الضوابط على بيئة النظام الإعلامي، كجزء من إجراءات تحرر أوسع. في حينها، أُطلقت العديد من القنوات التلفزيونية والصحف الخاصة، والتي تطرقت إلى مجموعة متنوعة من الموضوعات التي لم تتناولها التقارير في السابق: انتهاكات حقوق الإنسان، والقضايا الاقتصادية، والحياة خارج القاهرة، وما إلى ذلك. وكانت الصحف اليومية تضع الأجندة في الصباح، لتُناقش القضايا التي عرضتها على الجمهور العام في البرامج الحوارية التلفزيونية في المساء. في ذلك الوقت، كانت وسائل الإعلام ذات طابع سياسي بارز، بينما نشهد اليوم غياب تلك الفئة من وسائل الإعلام السياسية، لكن الجمهور ما زال حياً، وهذا ما نحاول التمسك به..

في البداية، كان جمهورنا يتألف بشكل أساسي من الأشخاص الذين يشاركوننا الرأي، لكننا الآن نتخطى تلك المرحلة وهذا أمر مهم بالنسبة لنا؛ فجمهورنا ونموّ حجمه هو سلاحنا. وبالطبع، من السهل البقاء في المنطقة الآمنة من الهوامش، وعرض أفكارنا لمعتنقيها، وكأنك تهدي المهتدين أصلاً. لكن، وكي نحظى بطابع سياسي، علينا أن نهتم بالتأثير وإيجاد طرق للوصول إلى الجماهير المختلفة، الأمر الذي ينطوي على تغيير الطابع والتكتيكات باستمرار.

على سبيل المثال، قد نجمع بين الأهداف الجادة والنهج الممتع. ذات يوم، توصل رسام الكاريكاتير الرئيسي في مدى مصر إلى رؤية لسلسلة من الفيديوهات على شبكة الإنترنت، حيث تقدم شخصيته الأخرى نصيحة أسبوعية للمواطن المصري الأسمر حول قضايا تهم الجمهور. والسلسلة، التي تسمى أخ كبير، تسخر بشكل أساسي من السلطة التي ترعى أشخاصاً من هذا النوع. وقد اشتهرت هذه السلسلة وحققت نجاحاً كبيراً في مصر والعالم العربي. وقد رأيت أولئك الأقل تسيُّساً من حولي – وما زلت أعرف القليل منهم! – يتابعون السلسلة ويرددون بعض الجمل التي أصبحت نكاتاً شعبية (ميمات)؛ كان ذلك رائعاً. لكن، وللأسف، كان على سلسلة أخ كبير أن تتوقف بعد ما واجهته من تهديدات من "أخ أكبر". وقد نشرنا ملاحظة تفيد بأن السلسلة ستتوقف في الأسابيع المقبلة بسبب سوء الأحوال الجوية، آملين أن يتحسن الطقس..

كيف تبحرون في الفضاء المتقلص لحرية التعبير في مصر، وهل تشعرون أن الدعم المالي والمعنوي الغربي يساعد حقاً في الترويج للصحافة العربية؟

دائماً ما أقول إن معاناتنا الأكبر هي عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات النظام السلطوي اليوم. في عهد مبارك، كانت المساحة التي يمكننا العمل فيها أوضح بشكل أو بآخر، وكنا نعرف نوع المخاطر التي نواجهها في كل مرة نتخطى فيها تلك الهوامش. الآن، يبدو أن أي فعل يعاقب عليه مهما كان تافهاً؛ إذ يمكن لنكتة عادية أن ترسلك سنوات إلى السجن، تماماً كما يفعل تحقيق أكثر إدانة وتفصيلاً. إن القوانين الجديدة التي تتعامل مع الإعلام والجرائم الإلكترونية، من بين تشريعات أخرى، هي في معظمها أدوات عقابية، على عكس الأدوات المصممة لتنظيم وسائل الإعلام أو الإنترنت. والأمر الذي يصعب تصديقه فعلاً هو أنه لا توجد مساحة على الإطلاق، حتى على الهامش. وهنا يطرح السؤال الملّح نفسه: هل يمكن لأي نظام – بغض النظر عن مدى هيمنته – أن يعمل بدون هامش؟

يجب أن نجد طرق للوصول إلى الجماهير المختلفة

لقد استوعبنا وقبلنا فرضية أنه من الممكن أن نموت غداً. لسنا مهووسين بالبقاء، لكننا لسنا انتحاريين. نوجه نداءات سياسية دوماً حول كيفية نشر المحتوى النقدي ووقته، لكننا لن نستسلم للخوف ونُحجم عن النشر نهائياً.

ونود أن نؤمن بأن جمهورنا الدولي، ولا سيما صنّاع السياسة ونشطاء المجتمع المدني والأكاديميين المهتمين بمصر والمنطقة، على استعداد دائم لتقديم دعمهم. غير أننا واقعيون أيضاً، لكن لسنا من النوع الخاضع. نحن ندرك تماماً بأنها ليست اللحظة التي قد يكون فيها للضغوط الدولية تأثيراً كبيراً عبر الترويج لوسائل الإعلام المستقلة. كان هناك وقت لمثل هذه الآمال، لكنه انتهى. واليوم، نستمتع بالشعور بأننا جزء من مجتمع عابر للحدود، نطاقه أوسع، ويعمل على تمكيننا، لكننا نعلم أنه لا يمكن له أن ينقذنا..

18 تشرين الأول/اكتوبر 2018

تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من:


محتوى ذو صلة