مهارات البحث


في أراضي الداتا القاحلة ‌


    كيف تقوم بـ:

  • إيجاد المجوهرات في جبال الداتا الغير المنظمة 
  • خلق نظام جمع معلومات مناسب لبحثك وتحليلك

كل شيء داتا: من الأرقام الدقيقة وحتى السرديات الانطباعية، وصولاً للشائعات والأكاذيب الفاقعة – والتي تحمل معلومات حول من يصوغونها. مشكلة الداتا، ولأنها في كل مكان، ستبقى أكواماً غير متماسكة ما لم يتم تنظيمها بشكل يمكن التعرف عليه.

قيمتها التحليلية تعتمد على متغيّرَين على وجه الخصوص: الحجم والتنظيم. قد تعطي المعلومات المتفرقة مؤشرات حول الأماكن التي يمكن البحث فيها، لكنها لن تقدم معرفة أوسع بالاتجاهات الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية. سيكون من المستحيل معالجة كميات كبيرة من الداتا ما لم تنظم بطريقة تجعلها مفهومة. لذا ينبغي السعي نحو كمية كافية من الداتا المنظمة.

توفر مختلف أنواع من الداتا متباين تبايناً واسعاً من منطقة جغرافية إلى أخرى، تبعاً مدى بيروقراطية أو لارسمية نظمها الإدارية، ومدى نضج مجتمعها المدني، وغير ذلك. يمكن للمجتمعات أيضاً أن تكون شفافة أو مبهمة بدرجات متفاوتة. العالم العربي، على سبيل المثال، هو حالة خاصة من شح الداتا: فالأنظمة الاستبدادية الفاسدة بالكاد تنتج معلومات موثوقة، وتكاد لا تشارك أياً منها، في حين يضطر المواطنون لإخفاء الكثير عن أنفسهم، ولا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي حيث الحسابات المتعددة والأسماء المستعارة وأشكال التعبير المشفّر – كالتهكّم – هي القاعدة.

في قفار الداتا هذه، حتى الحكمة التقليدية تصبح مشبوهة وصعبة التفحص. ومع ذلك فهي ستردد صداها، وتفرض نفسها، وغالباً ما يمكن في النهاية التحقق منها عبر مصادر مشروعة وموثوقة. في الأردن وسوريا في أوائل الألفينات، تبنت الأمم المتحدة تقديرات حكومية مبالغ بها بشأن عدد اللاجئين العراقيين، وذلك قبل مرور وقت طويل من القيام بأي إجراءات مؤسساتية لتسجيل أعدادهم. وفي العراق قامت وسائل إعلام رصينة بوصف الموصل عدة مرات بأنها ”ثاني أكبر مدينة عراقية“، علماً أن البلاد لم تشهد أي عملية إحصاء حقيقية منذ عقود، فيما هناك مؤشرات عديدة على أن البصرة أكبر من الموصل. أما في لبنان فالعديد من الهيئات الدولية تتبنى أرقاماً اقتصادية يستحيل التحقق منها نتيجة رفض الحكومات اللبنانية منذ سنوات طويلة الإفصاح عن أي بيانات مالية أو حتى عن مشاريع الموازنة.

مشكلة الداتا أنها في كل مكان

البحث المبتكر في القضايا الاجتماعية غالباً ما يكشف النقاب، لأول وهلة، عن ثروة من السرديات الغنية، وعن سرديات يصعب التأكد منها بالضرورة، وعن نقص مهول في المعلومات الموثوقة. يستخدم الأكاديميون ومراقبو الاستطلاعات تقنيات مختلفة للتغلب على هذه المشكلة: تحديداً يقومون ببناء استبيانات مع ترميز الإجابات التي يقدمها المستجيبون. قد تساعد النتائج على المزيد من الوضوح، إلا أن هذا قد يكون خادعاً أيضاً، فإجابات المشاركين مشكلة من أسئلة محددة سلفاً.

والحقيقة أن جمع الداتا، رغم من موضوعيتها الظاهرية، هي أقرب إلى الحرفة منها إلى العلم. فالنجاح فيها معتمد على الحس السليم والإبداع والتجربة والخطأ والمرونة، أكثر بكثير مما على أية منهجية شكلانية. لا يحتاج الفلاح إلى تكنولوجيا أو منهجية معقدة لتطوير قاعدة بيانات متطورة عن غلة محاصيله، ووضع مختلف أنواع التربة في الحسبان، وكذلك أنماط المناخ، وتجارب البذور أو الأسمدة السابقة، والتغيرات السنوية، والمقارنات مع الجيران، وما إلى ذلك.

يمكن للباحثين أن يفلحوا في مجالهم الاستقصائي بالطريقة نفسها إلى حد كبير. في أي بحث قائم على العمل الميداني، تقوم عملية جمع الداتا على تحليل المعلومات من مجموعة متنوعة من المصادر، و نسجها من جديد وفق مسالك مواضيعية. جميع التواريخ تتحول إلى تسلسل زمني (أو عدة جداول زمنية تغطي جوانب مختلفة من موضوع ما). يمكن للمعلومات عن الأفراد وعلاقاتهم أن تصب في مجموعة بيانات سيرة ذاتية، والتي قد تكون مواتية لشجرة نسب، أو مخطط تنظيمي أو معاينة بصرية للشبكات الاجتماعية. وبطبيعة الحال ستتحول المعلومات الجغرافية إلى خرائط. كما ستظهر أيضاً ”لبنات بناء“ وصفية مكونة من معلومات متناثرة، تضيف تدريجياً إلى تاريخ مؤسسة معينة، أو مذكرة عن قضية قانونية محددة، أو رسم بياني، أو ما شابه ذلك.

من المرجح أن تنبعث الداتا نفسها من مزيج من المصادر. معظم الموضوعات ستكشف عن نفسها من خلال ”الأدبيات“ أو الخبرات الموجودة؛ الوثائق التي تحتوي على المواد الخام؛ إشارات وسائل الإعلام على مدى فترة من الزمن؛ والمقابلات المجراة مع المعنيين. وكقاعدة عامة، ثمة معلومات متاحة أكثر مما قد نتخيله في بداية الأمر بكثير – ببساطة لأننا نود إعفاء أنفسنا من عناء التنقيب في المحفوظات والسرديات، والذي يستغرق وقتاً طويلاً بحق. افتراضك العكس، أي أن كنزاً من البيانات هو موجود هناك وينتظر عثورنا عليه، سيوفر عليك الكثير من الوقت: في أحيان كثيرة ستجد أشخاصاً سبقوك إلى الكثير مما كنت تودّ القيام به. لذلك، فإن ”رسم خريطة لراسمي الخرائط“ دائماً يعتبر نقطة انطلاق جيدة.

 إعادة ترتيب الداتا ممل، بالتأكيد. ولكنه أيضاً عنصر أساسي في العملية التحليلية. عيوننا ”ترى“ لأنها تنظم الأشياء إلى فئات – ألوان، قوام، حركات، مسافات – مما قد يكون غير ذي معنى بالنسبة لكائنات حية تتواصل مع حواسها بطرق أخرى. واقعهم – أي فهمهم للعالم – سيكون حتماً مختلفاً عن واقعنا، لأن المعلومات التي يجمعونها ويولّفونها مختلفة بحد ذاتها. بالوعي أو بالضمير أو بالحدس، فهم أي شيء يقوم على تصنيف وإعادة تنظيم مجموعة من الداتا.

فهم أي شيء يقوم على تصنيف وإعادة تنظيم مجموعة من الداتا.

تضيف آلية الفرز هذه طبقات من المعنى إلى شيء كان يبدو عصياً على الوصف وربما فوضوياً. يمكنك البحث في كومة من الكتل من مختلف الأشكال والألوان. ففي حال تركتها كما هي قد لا يمكنك أن تضيف إلى ما تقوله لك عن نفسها أي شيء. لكن إذا تلاعبت بالكتل وفصلتها إلى تجمعات، يمكنك إضافة أشياء أخرى: كم يبلغ عددها جميعاً؛ ما هي بالضبط أشكالها وألوانها؛ ما المفقود أو الناقص؛ هل هي ثقيلة أم لا؛ ما هي المواد التي صنعت منها؛ ما المنطق الكامن وراءها، الخ.

كما أن عملية تجميع الداتا ستكشف عن اتجاهات، واختلالات، وغموضات، وفراغات، وتشوهات، الخ، وكل ذلك مواد تحليلية ثمينة لم تكن لتكون مرئية لو تركت أكوام الداتا كتلة واحدة. حتى في ظل وجود نقص في البيانات، يمكن للتسلسل الزمني وبيانات السير الذاتية والخرائط والأرقام والإحصاءات أن تساعد في فهم مختلف السرديات المعقدة والمتضاربة.

إلى جانب ذلك، من شأن المعلومات التي تجمعها بشكل منهجي أن تعزز مصداقيتك وتدعم القيمة المضافة التي تقدمها – خاصة في بيئة فقيرة بالمعلومات. المعلومات سلطة كما يقال. وبما أنك اخترت البحث، فقد تكون المعلومات وسيلتك الوحيدة لتذوق بعضها. ”حرام“ ألا تنهل منها ما استطعت! 

27 شباط/فبراير 2017


تم استخدام الصور من:
Silhouettes in the rocky wasteland by Unsplash via Wikipedia
بترخيص من:  Unsplash


محتوى ذو صلة