العودة البغيضة

شقاء السوريين المتنقل

بالرغم من تفاقم أزمة سورية الاقتصادية، تُمعن الحكومات والمعلقون الغربيون في التفكير في أفضل السبل لتشجيع السوريين على العودة إلى ديارهم. إن عمليات العودة آخذة في الازدياد، في غالبها بين النازحين داخل البلاد، وبدرجة أقل بين اللاجئين في الخارج؛ غير أن هذا التوجه لا يبعث على الأمل، فبينما يواجه بعض العائدين التهديد القاتل المتمثل في الاضطهاد على يد النظام، يواجه الجميع خطر أزمة اقتصادية عميقة. ستؤدي الزيادة في أعداد العائدين إلى تغيير جغرافيا اليأس في سوريا بطرق يكاد يكون من المؤكد أن تعود عليهم بويلات جديدة، من التدهور الاقتصادي المستمر إلى موجات جديدة من النزوح والهجرة.

بالنسبة للسوريين النازحين داخل البلاد، أدت مشقة الحياة بعيداً عن الديار إلى تدفق واضح للعائدين، بما في ذلك إلى المناطق التي لا تزال مدمرة جزئياً والتي تفتقر إلى الخدمات الأساسية. لقد ظل كثيرٌ ممن فروا من منازلهم لسنوات يستأجرون مساكن في مناطق مستقرة نسبياً مثل دمشق وحماة واللاذقية وطرطوس، حيث ارتفعت الأسعار كثيراً بسبب تدفق القادمين الجدد. كثيراً ما يدفع أشد سكان سوريا فقراً مبالغ باهظة للعيش في ظروف مزرية ومكتظة، وغالباً ما يكونون تحت رحمة مالكي العقارات الذين يتعاملون مع المستأجرين من الطبقة الدنيا بازدراء واضح.

فئة أخرى من العائدين لم يكن لديها القدرة أصلاً على دفع الإيجار ولذلك اضطروا للعيش في ظروف أسوأ من تلك التي كانت تنتظرهم في بيوتهم. في مثال جليّ على ذلك، عادت عائلة من اللاذقية - حيث كانت تسكن في مبنى غير مكتمل بلا جدران أو نوافذ – إلى شرق حلب لتعيش في منزلها الذي تدمر كلياً باستثناء المطبخ. تمكنت الأسر الأكثر حظاً من العيش بدون دفع إيجار في منازل شاغرة بإذن من المالك أو بدونه، ولكن هذه العائلات تواجه الإخلاء على نحوٍ متزايد عند عودة المالكين الأصليين، والنتيجة هي سلسلة من ردود الفعل التي تؤدي فيها عودة النازحين – وكثير منهم قد أُفقروا - إلى الهجرة القسرية.

لهذه الأسباب، يضطر العديد من النازحين إلى العودة حالما يتوفر الحد الأدنى من مقومات البقاء على قيد الحياة في مناطقهم الأصلية، وأحد أبرز الأمثلة على ذلك هي ضواحي دمشق، فقد شهد هذا العام طفرة ملحوظة في عدد العائدين إلى الأجزاء المدمرة من الغوطة الشرقية، حيث يعود الكثيرون إلى المنازل أو الشقق التي تضررت بشدة وتفتقر إلى المياه أو الكهرباء؛ ولكنها على الأقل توفر لهم سقفا ًيأويهم.

إن أنماط عودة اللاجئين المستجدة من خارج سوريا تتوافق مع أنماط عودة النازحين داخلياً وغالباً ما تتناقض مع فرضية أن العودة إلى الوطن يجب أن تكون آمنة وطوعية وكريمة. تمثل مجموعة العائدين الأكثر وضوحاً التوجه الأكثر إثارة للقلق: الترحيل المباشر من تركيا ولبنان اللتين تستضيفان إلى حد كبير أكبر مجموعتين من اللاجئين السوريين.

إلى جانب تصاعد عمليات الترحيل، زادت بيروت وأنقرة من الضغوط الاقتصادية والبيروقراطية والاجتماعية على اللاجئين خدمةً لأهداف متداخلة تتمثل في التنفيس عن الإحباطات الشعبية، وسلب المال من فئة لا قوة لها، ودفع اللاجئين إلى العودة دون انتهاك مبدأ عدم الترحيل في حد ذاته. تؤثر هذه العودة القسرية على اللاجئين الأكثر عجزاً؛ فلدى اللاجئين الميسورين نسبياً خيارات مختلفة، من الاندماج اقتصادياً والحصول على الجنسية في تركيا إلى دفع الرسوم الباهظة المطلوبة للحفاظ على الإقامة في لبنان، وصولاً إلى إيجاد سُبل للجوء إلى أوروبا.


وبدلاً من تعزيز الانتعاش، تحوّل هذه الديناميات أشد السوريين عوزاً من وضع غير مستقر إلى وضع غير مستقر آخر، فكثير منهم ما يزالون يعتمدون اعتماداً كبيراً على التحويلات المالية والمساعدات. لا يوجد سبب لتوقع أن يصبح السوريون معتمدين على أنفسهم عما قريب؛ وذلك بالنظر إلى الخليط السام من الحكم المفترس، والعقوبات المشددة، وأسواق العمل والبنية التحتية المدمرة، والافتقار إلى أية آلية للإنعاش الاقتصادي. في الوقت نفسه، فإن عودة السوريين إلى بعض أكثر المناطق تضرراً في البلاد ستخلق مشاكل جديدة، إذ سيكون لوضع أعباء ثقيلة على البنية التحتية المتدهورة عواقب مميتة؛ كانهيار المباني واندلاع الحرائق بفعل الماسات الكهربائية. إضافة الى ذلك، كثيراً ما تتسبب العودة بتشتت العائلات، ما يؤدي إلى تمزق جديد للنسيج الاجتماعي المتداعي في البلاد.

في الواقع، غالباً ما تتجاهل التكهنات حول العودة حقيقة أن كثيراً من السوريين يواصلون الفرار؛ فكما يتدفق بعض الأفراد المضطهدين إلى ديارهم، يستميت آخرون للهروب. في درعا، على سبيل المثال، أدت عودة النظام سنة 2018 إلى عودة قلة قليلة من النازحين وفي الوقت نفسه أدت إلى زيادة في سوق تهريب البشر حيث راح السكان المحليون يسعون للوصول إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة حول إدلب أو خارجها. وعلى نحو مماثل، يتطلع عدد قليل من رجال الأعمال ممن اختاروا البقاء إلى فرص استثمار في الوطن، بينما يطمح آخرون إلى الرحيل بسبب التدهور المستمر في البلاد.

في هذا السياق، لا يمكن أن تكون المداولات الدولية حول تسهيل العودة أكثر تضليلًا. بغض النظر عن نواياها أو نتائجها العملية، فإن مثل هذه المناقشات تضخم من التصريحات التي مفادها "حان الوقت لعودة اللاجئين." وبالمثل، فإن تمويل برامج المساعدات التي تهدف إلى تسهيل العودة يعزز السرد المعادي للأجانب الذي تروج له مجموعة من الجهات الفاعلة الآن: من السلطات اللبنانية والتركية إلى أقصى اليمين الأوروبي ودمشق نفسها. إن التنفيذ بدوره يستلزم نقل الأشخاص إلى المناطق التي يصعب على المنظمات الإغاثية الوصول إليها.

هذا لا يعني بأي حال أن العائدين لا يستحقون المساعدة. على العكس من ذلك، سوف يمثل هؤلاء لفترة طويلة أحد أكثر سكان سوريا عوزاً، غير أن دعم هؤلاء لا يجب أن يكون عبر الافتراض السام سياسياً والمشكوك فيه منطقياً بأن العودة هي المرحلة التالية في الملحمة المستمرة في سوريا. قد ينطوي نهج أكثر حكمة بكثير على مضاعفة الجهود الإنسانية في تلك الأجزاء من البلاد التي عانت أسوأ المعاناة، مثل الغوطة الشرقية وحلب الشرقية والأحياء المتمردة في حمص. لن يساعد العائدون على تعافي هذه المناطق؛ بل هي من يجب أن تتعافى أولاً لكي تستقبل العائدين.

18 كانون الأول/ ديسمبر 2019 

تم كتابة هذا المقال بشكل جماعي بواسطة فريق سوريا في سينابس
قام بالترجمة للعربية حسان حساني

انظر مجموعة الصور الخاصة بنا من حلب في الأسفل



تم استخدام الصور من سينابس ومتاحة بموجب رخصة المشاع الابداعي

حصاد النار

محصول سوريا المشؤوم


نهب الجيوب الفارغة

اقتصاد الحوالات المالية في سوريا


التخريب الذاتي

تفكك التعليم في إدلب