سوريا اليوم وغداً

النساء والمساومة الصعبة

إنّ كفاح النساء السوريات ليس بالجديد، لكنهن اليوم في تغير يفوق في سرعته أي وقت مضى، فقد أدى العقد الماضي من الصراع إلى زعزعة الأعراف الاجتماعية، وتبديل ديناميات جندرية سابقة. في هذا المقال تحكي نساءٌ يعشن في دمشق وضواحيها عن تحولاتٍ يعشنها وتطال جميع أنحاء البلاد: في أعقاب الحرب، يقع جُلّ العبء على النساء لترميم اقتصاد منهار، ورَتْق نسيج اجتماعي ممزق. إن هذه مهمةٌ ثقيلةٌ تُضاف إلى أشكالٍ متجذرة من التمييز والاستغلال لا تزال تثقل كاهلهن. وجدتْ بعض النساء سبلاً لتحويل محنة كهذه إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ من الاستقلالية، مستوياتٍ يرغبن بتكريسها إذ تسير سوريا نحو مستقبلٍ جديدٍ ومجهولٍ.

مجتمع جديد

"إنّ كل العمالة في سوق الخضار في بلدتي من النساء حصراً"، هذا ما قالته ناشطةٌ في إحدى ضواحي دمشق الشرقيةِ. لطالما كانتِ النساءُ جزءاً من القوى العاملة في منطقتها، لكنهن اضطلعن مؤخراً بدورٍ أكبر وأكثر تنوعاً من أي وقتٍ مضى؛ وفي ذلك تقول الناشطة: "إنهن يفعلن كلّ شيء: فيتولين عملياتِ البيع، وعزلَ الخضرواتِ الطازجة عن الفاسدة، والذهابَ إلى تجار الجملة لشراء ونقل صناديق الخضار الثقيلة، وهو دورٌ لطالما كان منوطاً بالرجال."

في السنوات الأخيرة، ساهم الإفراغُ القاسي لسوريا من ذكورها بزيادة أعداد الإناث في ميادين العمل والأماكن العامة؛ وفي ذلك تقول إحدى الباحثات: "تعجّ المكاتب الحكومية اليوم بالموظفات"، وأضافت مازحةً: "عندما يتعين علينا القيام بمراجعة إدارية، تَراهنّ دائماً يعاملن زوجي أفضل مما يعاملنني، بل أظن أنهن يغازلنه". يصف موظفٌ حكوميٌّ بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل الظاهرةَ نفسَها بالأرقام فقال:

ذات مرةٍ أعلنت إحدى الدوائر الحكومية عن 80 فرصة عملٍ، فتقدم لها 3500 شخصٍ ليس فيهم سوى 60 رجلاً. وفي مناسبةٍ أخرى، زرتُ مدرسةً في وسط دمشق فرأيتُ فيها 40 معلمةً ومعلمَين اثنين، أحدهما كان في الخمسين من عمره [أي أنه تجاوز سن التجنيد الإلزامي] وكان الآخر الابنَ الوحيدَ في أسرته [وبالتالي مُعفىً من التجنيد الإلزامي.]

تقدّم هذه الحكايات لمحةً عن التحول الجاري، غير أن من الصعب تحديد النطاق الكامل لهذا التغيير بدقةٍ من حيث الأرقام. في تقريرٍ صدر عام 2022، قدّر البنك الدولي أنّ نسبةَ مشاركة المرأة في القوى العاملة في سوريا قد تضاعفت من 13 إلى 26 في المئة منذ عام 2011. وقد يكون الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بالنظر إلى انتشار العمل غير الرسمي، وصعوبة الحصول على إحصاءاتٍ دقيقةٍ. هذا التحول هو أكثر من مجرد نسبةٍ؛ إذ إنه يتعلق أيضاً بأي النساء اللاتي يدخلن سوق العمل، وبالوظائف التي يتقلدنها. "في الماضي، لم تكنِ النساء المتزوجات في مسقط رأسي يعملن في الغالب"، تقول أمٌ أرملةٌ من داريا، وهي ضاحيةٌ دمشقيةٌ متمردةٌ دمرتها المدفعية السورية وسوّت معظمها بالأرض، وتضيف: "لكن ذلك تَغيّر عندما فقدنا أزواجنا، وهربنا من منازلنا، واضطررنا إلى إعالة أنفسنا."

ونتيجةً لذلك، تتولى النساءُ اليوم مناصب مُنعت عنها فيما مضى أو اعتُبِرت غير لائقة بهن. في ضاحيةٍ أخرى من ضواحي دمشق، خاضتِ امرأةٌ تجربة عمل حر رياديةً من جهةٍ، ومؤلمةً ومحزنةً من جهةٍ أخرى؛ فبعد أن راحت تزاول تلميع الأحذية على رصيفٍ عامٍّ، لاقت صعوبةً في جذب الذكور من المارة، ولذا لجأتْ لوضع لافتةٍ تحثهم فيها على عدم الخجل من قيام امرأة بتلميع أحذيتهم. شارك الموظف المدني دهشته من مدى دراماتيكية كل هذه التغييرات بقوله: "تؤدي النساء اليوم كل عملٍ يمكن أن تتخيله، بدءاً من بيع السجائر في الطرقات، وصولاُ إلى رئاسة البنوك الخاصة. ذات مرةٍ زرتُ مصنعاً به ثمانية مستودعاتٍ تدير النساء ستةً منها؛ كانت بعض العاملات تحملن الصناديقَ الثقيلةَ، وتُصلحن الآلاتِ. لم أصدق ما رأيتُ حينها."

وحيث يسهم عملهن في إبقاء الاقتصاد واقفاً على قدميه، تسيّر اليوم نساء أكثر الأعمال التجارية، ويدرن المنظماتِ غيرَ الحكومية، ويتولين مناصبَ قياديةً في المجتمع. في بعض المناطق، يلاحظ السكان ازدياد عدد النساء اللائي يتولين زمام إدارة "لجان المباني"، وهي مجموعاتٌ تطوعيةٌ تنسق إدارةَ المجمعات السكنية؛ وذلك من خلال جمع الرسوم لتغطية النفقات المشتركة على سبيل المثال. تضطلع بعض النساء بهذه الأدوار بدافع الضرورة، غير أن منهنّ من يفعلن ذلك بدافع الملل أو الطموح، أو الرغبة في إيجاد سبلٍ بسيطةٍ وبناءةٍ لتشكيل بيئةٍ كانت ستبدو خانقةً لولا ذلك. وصفت عاملةٌ في منظمةٍ غير حكوميةٍ في ضاحية دُمّر في دمشق كيف يمكن لهذه العوامل أن تقود النساءَ تدريجياً إلى مناصبَ عامةٍ؛ فقالتْ: "تدير حماتي لجنة المبنى الذي تسكنه، فيقع على عاتقها الكثير بالتأكيد، غير أني أتفهم سببَ رغبتها في التطوع لحلّ بعض المشاكل من حولها، وخاصةً أن معظم صديقاتها قد غادرن البلاد."

وبالمثل، شهدتِ الانتخاباتُ البرلمانيةُ السورية لعام 2020 سعيَ مزيدٍ من النساء لتقلّد مناصبَ في السلطة المحلية، وإن بدت نتائج الانتخابات نفسها وكأنها خطوة إلى الوراء، فقد انخفض في الواقع عدد النساء المنتخبات من 32 في عام 2016 إلى 27 في عام 2020. ولكن نظراً لأن هذه الانتخاباتٌ مزيّفة، أهمَّ ما في القصة هو الملفات الشخصية لنحو 200 امرأةٍ ترشحن في تلك الانتخابات: فتاريخياً، كان التمثيل النسائي حكراً على حفنةٍ من الشخصيات المرتبطة بالحزب الحاكم. على النقيض من ذلك، ينوه بعض النشطاء إلى أن الانتخاباتِ الأخيرةَ أفضت إلى زيادةٍ في عدد المرشحات المستقلات ممن يتبوأن أدواراً قياديةً وقويةً في مجتمعهن. وصف شرطيٌّ ثلاثينيٌّ كيف حدث ذلك داخل أسرته:        

أختي مديرةُ مدرسةٍ ذاتُ شخصيةٍ قويةٍ تحظى بالاحترام، وهي وزوجها من الشخصيات العامة في مجتمعهما، لكنهما شعرا أن لها سمعة أقوى كقياديةٍ، ولذا أجمعا على أن تكون هي من يترشح لعضوية البرلمان. صحيحٌ أنها خسرت في نهاية المطاف، إلا أني ما زلت أعتقد بأنها أبلتْ بلاءً أفضل مما كان سيفعله زوجها.        

المواجهة داخل البيت

تعزز هذه الإعادةَ المذهلةَ لتنظيم المجال العام في سوريا تحولٌ أكثر هدوءاً يتكشف في الخفاء، لكنه ليس بأقلَّ عمقاً: في المنزل، وفي العلاقات الشخصية والعائلية. تلاحظ النساء على اختلاف مشاربهن كيف أن التغير في الأدوار الاجتماعية للجنسين قد أدى إلى زعزعة أعراف ثقافية متجذرة، والنتيجة سلطةٌ واستقلاليةٌ أكبر في اتخاذهن للقرارات التي تخص تنقّلهن ولباسهن، وإنفاقهن للمال ومن يواعدن.

ترى بعضهن في هذا التحول تمكيناً وتحرراً يجب الاعتزاز به وحمايته؛ وفي هذا السياق وصفتْ نازحةٌ من ضاحية كفربطنا المحافِظةِ في ريف دمشق هذا الشعورَ بعبارة تثير الاستغراب فقالتْ: "جميلةٌ هي الحرب، ففيها جانبٌ إيجابيٌّ". لقد عانت هي وعائلتها الأمرّينِ خلال الصراع بعد أن فروا من منزلهم واستقروا في منطقةٍ مجاورةٍ حيث كانوا يكافحون من أجل تأمين لقمة عيشهم. غير أنها تمكنت أيضاً من رؤية جانبٍ إيجابيٍّ في تلك المشقة، فقد استفادت من خليط يجمع ضائقة اقتصادية وبيئةٍ جديدةٍ أقل تزمتاً، فحظيت بمساحةٍ كانت قد حُرمت منها في الماضي: "في مسقط رأسي، أجبرني أهلي على تغطية وجهي خارج البيت، ولم يكن يُسمح لي بالخروج إلا لقضاء الحاجات بصحبة حماتي، لكن بعد أن نزحنا بِتُّ أخرج لأشتري حاجياتي بنفسي، واتخذتُ قراراً بالتخلي عن نقابي."

وأما البعض الآخر من النساءً فلديهن رأيٌ مخالفٌ، أو تجدهن مستاءاتٌ كثيراً من الأعباء الثقيلة التي ما من خيارٍ لديهن سوى تحملها، ويرين أن المسؤوليات المتعاظمة، ولا سيما المعيلاتِ منهن، قيداً أكثر منها تحرراً، فبات يحدوهن الحنين إلى أيامٍ كان فيها الرجال يلبون احتياجاتِ أُسرهم. "كنا نحن النساءَ في رغدٍ من العيش"، تقول أرملةٌ فقيرةٌ من ريف دمشق وهي تجلس في شاحنةٍ صغيرةٍ تُقلها إلى المنزل من مركزٍ نسويٍّ تتلقى فيه تدريباتٍ مهنيةً، وتضيف: "جميع احتياجاتنا كانت مؤمّنةً، أما الآن فما لنا من أحدٍ سوى أنفسنا."

واليومَ يستدعي تأمين متطلبات العيش العملَ في وظائفَ عدةٍ، وفي ظروفٍ شاقةٍ واستغلاليةٍ، ولا تزال كثيرٌ من النساء عاجزاتٍ عن تلبية احتياجاتهن، فيُجبرْن على اتخاذ قراراتٍ مؤلمةٍ، كأن يبتن جائعاتٍ، أو أن يُخرجن أطفالهن من المدرسة لإرسالهم للعمل، أو أن يزوجن الفتياتِ الصغيراتِ للتخلص من عبء إطعامهن. في الواقع، تشير تقاريرُ كثيرةٌ إلى ازدياد ظاهرة تزويج الأطفال: ففي عام 2019، قال مسؤولٌ بوزارة العدل السورية صراحةً أن معدل زواج القاصرات في دمشق وضواحيها قد تضاعف أكثر من أربعة أمثالٍ منذ عام 2011. في بعض الأحيان، لا يلجأ الأهالي إلى خياراتٍ كهذه بسبب الضغوط الاقتصادية فحسب، بل ودرءاً لمخاوفهم على سلامة الفتيات الصغيرات: "أعيش أنا وابنتي البالغةُ من العمر 16 عاماً محاطتين بالجنود والسكارى"، قالتِ امرأةٌ نازحةٌ معبرةً عن قلقها، وأضافت: "أريد أن أزوّجها في أقرب وقتٍ ممكنٍ كيلا أقلق على سلامتها".

وبالإضافة إلى الجهد الذي تبذله النساء لإدارة مستويات المسؤولية الجديدة التي نلنها، فإنهن لا زلن يواجهن مشاكلَ قديمةً مألوفةً أيضاً، تبدأ بالأعراف الاجتماعية القمعية ولا تنتهي بالعنف المنزلي، فقدِ ازداد الاستغلال الجنسي أكثر من أي وقتٍ مضى، يغذّيه مزيجٌ من اليأس الاقتصادي وتآكل النسيج الاجتماعي. قالت مدربةٌ تقدم دوراتٍ تدريبيةً للنساء: "تقيم بعض النساء علاقات جنسية عبر الإنترنت من أجل تغطية احتياجاتهن، فيرسلن صورهن عارياتٍ إلى رجالٍ يحولون لهواتفهن رصيداً، أو مالاً يدفعنه أجراً للمسكن؛ وكثيرٌ من هؤلاء الرجال يقيمون في دولٍ عربيةٍ أخرى، ويستغلون حقيقة أن النساء السوريات قد تُركن لوحدهن". هذه الحكايات منتشرةٌ بكثرةٍ خارج الإنترنت أيضاً: إذ يطلب بعض الأساتذة الذكور في الجامعات ممارسة الجنس مع الطالبات لقاءَ منحهن درجاتٍ مرتفعةً؛ كما قد يقدمُ المدراءُ الوظائفَ مقابل الخدمات الجنسية؛ ويَعِد بعض البيروقراطيون والمسؤولون الأمنيون بتسهيل الإجراءات من تقبل إقامة علاقة معهم.

تشير هذه الممارسات إلى تحولاتٍ أوسع في كيفية ارتباط المجتمع بالجنس، فبفعل انهيار القواعد الاجتماعية التقليدية، تآكلت بعض القيود التي كانت مفروضةً على الاستقلال الجسدي، إذ راحت وسائل الإعلام والإعلان تعرض الجنسانية الأنثوية على نحوٍ أكثر تحرراً وعلانية، مما يمكّن العارضاتِ والمؤثراتِ على وسائل التواصل الاجتماعي من الكسب عبر تسويق أنوثتهن. وتجرب أعدادٌ متزايدةٌ من النساء - لا سيما في دوائر الطبقة الوسطى والعلمانية والمدنية – خوض علاقاتٍ عاطفية وجسدية، متحدياتٍ بذلك المحظورات القديمةِ المتعلقة بممارسةَ الجنس قبل الزواج.       

ولمّا راحتِ النساء يتخلصن من الحواجز التي تَحُول دون انخراطهن في العلاقات، فقد حصلن في الوقت نفسه على قدرٍ أكبر من الاستقلالية في إنهائها؛ حتى في المجتمعات التي كان الطلاق فيها يحمل وصمة عارٍ ثقيلة ذات يومٍ؛ وفي ذلك أعربتْ صيدلانيةٌ شابةٌ عن عدم شعورها بأي ندمٍ على طلاقها من زوجها بعد فترةٍ وجيزةٍ من ولادتها طفلهما الأول: "لقد تشاجرنا، وغادرتُ المنزل في سيارة أجرةٍ، فلحقني بسيارته، صارخاً في وجهي للنزول من التاكسي. قررت حينئذٍ أنه من الأفضل تربية طفلي بمفردي." 

ومما لا شك فيه أن لهذه التحولات آثاراً عميقةً على الرجال السوريين، فقد تقبّل البعض هذا التحول، سواءً بسبب إيمانٍ صادقٍ بالمساواة، أو بسبب اعترافهم مضضاً بوجوب التكيف مع الظروف المتغيرة؛ فهم يقبلون الآن مثلاً أن متطلبات العيش تستلزم أن تتولى زوجاتهم أو أخواتهم أو بناتهم وظائفَ في أماكن كانت محظورةً في السابق، أو أن يرتدين ملابسَ تتناسب مع محيطٍ جديدٍ، وفي ذلك تقول شابةٌ انتقلت من مدينة دوما المحافِظة إلى مدينة دُمّر الأقل تزمتاً، حالها في ذلك حالُ السيدة من بلدة كفربطنا التي قررت خلع النقاب: "لقد توقفتُ عن تغطية وجهي بطلبٍ من الرجال في أسرتي كيلا ألفتَ أنظار الناس في المنطقة هنا". غير أن هذه الدينامية نفسها - والتي غالباً ما يكون للرجال فيها تأثيرٌ كبيرٌ على مدى وسرعة انتقال النساء نحو الاستقلالية في حياتهن - توضّح مقدار العمل المتبقي الذي يتعين عليهن القيام به.

علاوةً على ذلك، يتباطأ هذا التقدم لأن من الرجال من لا يتقبل التغيير، ومنهم كذلك من لا يروقهم رؤية نسائهم يحظين باستقلاليةٍ ومسؤوليةٍ أكبر، سواءً كان ذلك بسبب المعتقدات الاجتماعية المحافظة، أو التوجس من تغير ديناميات السلطة داخل الأسر التي طالما هيمن عليها الذكور. قالتِ المرأة النازحة من كفربطنا، والتي كانت تتشاجر أحياناً مع زوجها عندما يطلب منها الامتناع عن الذهاب للعمل أو حضور التدريبات المهنية: "يكره الرجال في حياتنا خروجنا يومياً واختلاطَنا برجالٍ آخرين، ولذا ينتهي الأمر بكثيرٍ من النساء بالكذب على أزواجهن ليتمكنَّ من فعل ما يردن."

يبقى أن نرى كيف ستتطور لعبة شد الحبل هذه في السنوات القادمة. سيسعى بعض الرجال إلى تقليص المساحة التي حصلت عليها النساء، بينما سيتأقلم آخرون أكثر فأكثر مع التوازن الجديد بين الجنسين في سوريا، فينصهرون في بوتقته حتماً. ولعل أكثر ما يثير الاهتمام أن تنشئة أعدادٍ غيرِ مسبوقةٍ من الأولاد السوريين تقع اليوم على عاتق أمهاتٍ عازباتٍ في مجتمعاتٍ تتولى فيها النساءُ زمام الأمور. من السابق لأوانه تحديد ما سينجم عن ذلك، لكنّه يبدو أن نظرة هذا الجيل للنساء ستكون مختلفةً تماماً عن وجهة نظر أسلافه. 

إعادة الاتزان

ولا ريب أن المرأة السورية سيكون لها رأيٌ ودورٌ كبيران في كيفية تطور هذه المرحلة الجديدة، فبينما تشق النساء طريقهن إلى الأمام، تجد بعضُهن سبلاً لتعزيز ما حققن من المكاسبَ الصغيرةٍ والمهمةٍ في آن معاً. السيدةُ من كفربطنا عادتْ إلى مسقط رأسها، وانتقلت من وظيفة منخفضة الأجر في التطريز إلى وظيفةٍ أكثر استقراراً وأفضل أجراً في مركزٍ مجتمعيٍّ. وأما المرأة من داريا، التي فقدت زوجها وكافحت من أجل إعالة أطفالها، فقدِ انتقلت بدورها إلى منصبٍ إداريٍّ في منظمةٍ غير حكوميةٍ، وتوفر الوقت، رغم كل الصعاب، لدراستها في جامعة دمشق.

غير أن معظم مسارات النساء اليوم لا تسير في نفس الاتجاه، إذ تسعين إلى تحقيق توازنٍ بين شخصياتهن السابقة، والجديدة، ورأي الآخرين في كيفية مضيهن قدماً؛ وفي ذلك وصفتْ طالبةٌ جامعيةٌ في العشرينات كانت قد أمضت خمس سنواتِ نازحةً في العاصمة، كيف أن التقاليد الأبوية لا تزال تقيّد المساحة المتوفرة في قريتها المحافظة في ريف دمشق التي عادت إليها:

في المدينة، كنت أرتدي قمصاناً ضيقةً، وأضع مساحيق التجميل عندما أخرج، أما هنا فيذمّني الجيران لفعل ذلك، ولذا عدتُ إلى ارتداء البلوزات الطويلة، وكففتُ عن التبرج؛ لكن أختي أكثر إصراراً مني، فقدِ استمرتْ في ارتداء الملابس بالطريقة التي اعتادت عليها. أهلنا ليسوا راضين عنها، لأنها ستتسبب بوصمنا بالتحرر وبأننا غير صالحاتٍ للزواج.

ترتبط هذه النضالات الفردية بعملية تفكرٍ جماعيةٍ بمكانة المرأة في المجتمع، فقبل عقدٍ من الزمن، كانتْ المداولاتُ حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين في سوريا محصورةً في دوائر النخبة من الناشطات النسويات، ممن فشلت سياساتهن اليسارية عموماً في أن تحظى بقبولٍ لدى شريحةٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ؛ أما اليوم، فقد غدت هذه المداولاتُ أكثر تنوعاً وعلنيةً وشيوعاً. على سبيل المثال، عندما تعرّضت شابةٌ سوريةٌ للضرب حتى الموت على يد زوجها عشية رأس السنة الجديدة، أثار ذلك مناقشاتٍ حول العنف الأسري في مناطقَ متفرقةٍ من البلاد: من الضواحي المحافظة في دمشق إلى عنابر سجون النساء.

تعكس هذه التحولات، في جزءٍ منها، الجهودَ الحثيثةَ التي تبذلها مجموعةٌ عريضةٌ ومتناميةٌ من النسويات السوريات، سواءً داخل البلد أو في الشتات الواسع. مع انتشار وسم #MeToo عالمياً، حصلتِ الناشطات والنشطاء السوريون المقيمون في أوروبا على عشرات الآلاف من المتابعين الذين يناقشون حقوق المرأة على فيسبوك وتيكتوك، وقد تناول هؤلاء أفكاراً مثل العنف القائم على النوع الاجتماعي والاستقلالية الجنسية، وقدموا النصائح القانونية للاجئات اللاتي يعانين من العنف المنزلي في بيئةٍ جديدةٍ وغير مألوفةٍ. وقد استفادتِ الناشطات داخل سوريا من هذا الزخم العالمي في تطوير تكتيكاتٍ خاصةٍ بهن، فقدِ استضفن مناقشاتٍ شخصيةً وافتراضيةً، وأطلقن حملاتٍ لزيادة الوعي بشأن التحرش الجنسي، وأنشأن منظماتٍ غيرَ حكوميةٍ راحت تقدم الدعم القانوني والنفسي للناجيات من الانتهاكات. كما أقمن روابطَ عابرةً للحدود، وساعدن في تنسيق حملاتِ مناصرةٍ دوليةٍ تشجب العنف ضد المرأة في العالم العربي.

وتعزز النساء السوريات التقدم الذي أحرزنه، بالاستفادة من برامج الدعم الممولة من الغرب والتي تهدف إلى تمكينهن. واجهت هذه البرامج انتقاداتٍ كثيرةً، حتى من النساء المشاركات فيها. على سبيل المثال، نادراً ما تبدو برامج "سبل العيش المستدامة" قادرةً فعلاً على توفير سبل عيشٍ مستدامةٍ في سوق عملٍ تندر فيه الوظائف المجزية ذات الأجر الجيد. علاوةً على ذلك، يمكن القول إن هذه المشاريع نفسها - والتي يركز كثيرٌ منها على الخياطة والحرف اليدوية - تعزز الصور النمطية عن نوع العمل الذي يجب أن تمارسه المرأة، وهو ما توضحه مديرة المنظمة غير الحكومية في داريا بقولها: "لقد سئمتُ من عدد المرات التي صورتني فيها منظمتي وشاركت فيها قصتي بغية جمع الأموال اللازمة لتدريب النساء على التطريز."

وحتى ناقدات هذا القطاع يحولنه في بعض الأحيان لمصلحتهن. في بعض قصص النجاح ما هو واضحٌ وحقيقيٌّ، كقصة السيدة من داريا التي قدمت مثالاً غير مألوفٍ نسبياً عن امرأةٍ بدأت كمتدربةٍ ثم ارتقتْ إلى منصبٍ مستقرٍ يمكّنها من دفع نفقات حياتها. ومن تلك القصص ما هو أقل وضوحاً وأكثر مواربةً، فإذا فشلتِ امرأةٌ مفقرة في ترجمة دروس النسج إلى وظيفةٍ حقيقةٍ، فقد تبتكر سبلاً أكثر إبداعاً للاستفادة من تلك الدروس، سواءً عن طريق بيع كرات الصوف لشراء الطعام، أو ببساطة عن طريق استخدام مركز التدريب كمساحةٍ للتفريغ والتواصل مع النساء الأخريات ومناقشة المشكلات المشتركة. قالت إحدى المدربات في ورشةٍ للحرف اليدوية: "جلساتنا مهمةٌ، وخاصةً للنساء الأكبر سناً والأقل حظاً في الخروج والتعرف على الناس". وهكذا، حتى عندما لا تصيب برامج التمكين هدفها المفرط في الطموح، قد تأخذ النساء ما تيسّر لهن من مواردها التي يحتجنها للمضي قدماً.

وفي حين تشقُّ النساء من جميع الخلفيات طريقهن إلى الأمام، لا تكمن أعظم قواهن وأكثرها ديمومةً في المهن التي يزاولنها، ولا الرواتب التي يجنينها، ولا حتى في الحريات الفردية التي ينلنها، فهذه كلها قد تتآكل مع سير سوريا في طريقٍ لا يمكن التنبؤ به، بيْد أن المكسب الأثمن هو الثورة الهادئة التي تتجلى في الكيفية التي يتحدثن ويتعلمن ويدعمن بها بعضهن بعضاً، وهو ما يستطعن التحكم به والسيطرة عليه حقاً. في أماكن العمل، والمساحات المجتمعية، وعلى الإنترنت، لم تكن النساء السوريات مرتبطاتٍ ببعضهن البعض كما هن الآن، ولا مع الحلفاء المحتملين في أماكن أخرى في العالم العربي وخارجه.

إن رائداتِ هذا التغيير هن أولُّ من يدركن حجم العمل الذي لا يزال عليهن القيامُ به، ففي الوقت الحالي، لا تزال النساء مشتتاتٍ بفعل الانقسامات التي تقطع أوصال المجتمع على نطاقٍ أوسع: بين من هم داخل سوريا ومن هم خارجها، وبين الأغنياء والفقراء، والشباب والكبار، والعلمانيين والمتدينين. غير أن هذه التعددية هي مصدر قوةٍ أيضاً، وسمةٌ طبيعيةٌ لحركةٍ آخذةٍ في الاتساع، قد يؤدي فيها الانقسام والاختلاف إلى تعزيز التقدم كما قد يؤديان إلى كبحه، وهي جزءٌ لا يتجزأ من عملية استرداد المرأة مكانتها في مجتمعٍ معقدٍ ومجزأ، مجتمعٍ بدأت النساء بالفعل برسم ملامح مستقبله المُبهم. 


15 آب/ أغسطس 2022

تم بكل امتنان استخدام العمل الفني "جنازة الفراشة" للفنانة عزة أبو ربعية وذلك بوجب إذن منها

تم انتاج هذا المقال بدعم من الاتحاد الأوروبي ودولة ألمانيا الاتحادية. إن محتوى المقال يقع على عاتق مسؤولية سينابس وحدها ولا يعكس بالضرورة آراء الجهات المانحة.