تحرير الاقتصاد السوري من الداخل
أشعل تعهدُ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برفع جميع العقوبات الأمريكية الأملَ في نفوس السوريين التواقين إلى حدوث انفراجٍ في اقتصاد بلدهم، وذلك لسببٍ وجيهٍ: فتلك كانت أولَ إشارةٍ إلى استعداد الولايات المتحدة لتخفيف الحصار الاقتصادي الذي ركّع سوريا، ويهدد اليوم بعرقلة تعافيها؛ غير أنه لا يمكن حل جميع المشاكل من الخارج وحسب: ففيما ننتظر مدى سرعة ترامب وجديته في تنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه، يجب على سوريا أن تتحرر من القيود التي ما تزال تكبّل اقتصادَها من الداخل: بيئةٌ قانونيةٌ غامضةٌ، وسياساتٌ اقتصاديةٌ متخبطةٌ، وأزمةٌ إنسانيةٌ خانقةٌ، وهذه كلها عواملُ تمثل خطراً على تعافي سوريا يعادل خطورةَ العقوبات الغربية، أو العنفَ الذي لم يخمد كلياً بعدُ. ومن خلال وضع خطةٍ لمعالجة هذه المشاكل معالجةً مباشرةً، يمكن لدمشق أن تهيئ البلاد للاستفادة من تخفيف العقوبات، أو للصمود أمام أي تأخيرٍ محتملٍ في رفعها.
مما لا شك فيه أن الاقتصاد السوري أظهر مؤشراتِ تحسنٍ حتى قبل إعلان ترامب نيته رفعَ العقوبات، فالفساد الإداري الذي بلغ ذروته في السنوات الأخيرة من حكم بشار الأسد قدِ انخفض انخفاضاً ملموساً، كما أن نقاط التفتيش التي دأبتْ على ابتزاز السائقين أصبحتِ الآن مجردَ حواجزَ بسيطةٍ على الطرقات، أما الفنادق فراحت تعج بالوفود الأجنبية والسوريين المغتربين الذين يأتون من الخارج في الغالب لحضور مؤتمراتٍ لاستكشاف فرص الاستثمار، كما أن الكهرباء تحسنتْ في بعض المناطق بفضل تدفق الغاز القطري الذي طال انتظاره، وأما في ضواحي دمشق التي عانت من الحصار والقصف، فقد بدأ السكان بالعودة تدريجياً لترميم منازلهم وإعادة فتح متاجرهم.
غير أن هذا الزخم لا يزال مجزأً، وناتجاً عن جهودٍ متفرقةٍ، لا عن رؤيةٍ متماسكةٍ لتحقيق التعافي، وهو ما عبّر عنه رجل أعمالٍ من الغوطة الشرقية بقوله: "كل عمليات إعادة الإعمار هنا يقوم بها الأهالي، فالتجار والصناعيون تبرعوا بالأموال لإصلاح المدارس وجمْع النفايات، وقد بدأنا العمل فور سقوط النظام، ولم ننتظرِ الدولة." كما أوضح اقتصاديٌّ من ضاحيةٍ أخرى من ضواحي دمشق أن للتعافي القائمِ على الجهود المحلية حدوداً: "ثمة كثيرٌ من المبادرات الواعدة، لكنها كلها عبارة عن تضامنٍ محليٍّ، إذ يمكن للناس إطلاق المبادرات حدّ نقطةٍ معينةٍ، لكن إعادة الإعمار تقع على عاتق الدولة في نهاية المطاف."
إن هذا التطلع إلى دور الدولة لا يقتصر بدفع الرواتب وإعادة بناء البنية التحتية وحسب، بل بمعالجة المشكلات الجوهرية في الحوكمة الاقتصادية التي تعيق جهود السوريين الراميةَ للنهوض من جديدٍ أيضاً، فمنذ كانون الأول / ديسمبر على سبيل المثال، تسود الفوضى قطاعَ العقارات، وهو قطاعٌ حيويٌّ لعودة المهجرين وإعادة الإعمار، كما أن القيود المفروضة على معاملات الملكية شلّتِ القنواتِ الرسميةَ للبيع والشراء؛ ولا أحد يعرف على وجه اليقين سبب استمرار هذه القيود أو موعد رفعها. يتساءل المصنعون كيف ستدير سوريا التجارةَ مع جيرانها، فيما تجتاح البضائع التركية الرخيصة السوقَ المحلية، وتشلّ الإنتاج المحلي. وبالمثل يشتكي سائقو سيارات الأجرة الذين يعملون على طرق لبنان والأردن من التغيرات المستمرة في القوانين المعمول بها في المعابر الحدودية الخارجية، والقائمةُ تطول لتشمل مجالاتٍ حيويةً كإصلاح القطاع المصرفي والسياسة النقدية التي ما زال الغموض يكتنفها.
يرى البعض أن هذه الضبابية وغيابَ الإجابات الواضحة هو أكبر عائقٍ أمام الاستثمار. قال رجل أعمالٍ سوريٌّ مقيمٌ في أوروبا قد أتى لحضور مؤتمرٍ تكنولوجيٍّ في دمشق: "لا يوجد وضوحٌ بشأن مستقبل بيئة الأعمال، فكل شيءٍ غامضٌ، ما يجعل من المستحيل حساب المخاطر." يتوخى ذلك الرجلُ الحذرَ في الوقت الحالي، ويستثمر بعضاً من أمواله وحسب في مشروعٍ تجريبيٍّ، لكنه يتجنب جمع التمويل لإطلاق مشاريع أكبر.
ينبع هذا الغموض من غياب قنواتٍ موثوقةٍ وواضحةٍ للتواصل من خلالها حول ما يخص السياسات الاقتصادية، فرجال الأعمال، كغيرهم من السوريين، يجمعون ما تيسر لهم من معلوماتٍ من مصادرَ متعددةٍ ومتفاوتةٍ في مصداقيتها: من البيانات الرسمية إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ومن الشائعات إلى التقارير الإعلامية المحلية والدولية التي تستند إلى مصادرَ مجهولةٍ، ولذا قد يمتلك السوريون المطلعون جيداً معلوماتٍ متباينةً كلياً حول مسائلَ أساسيةٍ مثل نظام التأشيرات أو سجلات الملكية. وما أحوج السوريين اليوم إلى معلوماتٍ رسميةٍ توضح الأمور، وأوضحُ مثالٍ على ذلك هو مئات التعليقات المتحمسة التي شكر كاتبوها عبدَ السلام هيكل، وزيرَ الاتصالات الجديد، لنشره على موقع "لينكد إن" توجيهاتٍ لتعزيز ريادة الأعمال الرقمية.
ويتعدى ذلك الغموضُ القطاعَ الخاص ليطال مجالاً حيوياً آخر من الاقتصاد السوري: وهو المساعدات الإنسانية التي لا يزال يعتمد عليها كثيرٌ من السوريين للبقاء وإعادة الاستقرار والانطلاق من جديدٍ. تواجه وكالات الإغاثة الدولية صعوبةً في مواكبة الاحتياجات المتغيرة في سوريا، ويرجع ذلك في جزءٍ منه إلى أن كثيراً منها بات يواجه مصاعب بسبب التخفيضات الحادة في التمويل، كما زادتِ العراقيلُ البيروقراطيةُ في دمشق الأمرَ سوءاَ، وأبطأتِ الاستجابةَ الإنسانيةَ أكثر فأكثر، وذلك من خلال عملياتٍ بطيئةٍ ومحدودة الموارد لتسجيل المنظمات غير الحكومية والموافقة على أنشطتها. وفي هذه الأثناء تتزايد الأزمات وتتفاقم، إذ أفادت منظمة "إنقاذ الطفل" أن أكثر من 650 ألفَ طفلٍ دون سن الخامسة يعانون سوءَ التغذية المزمنَ، محذرةً من أن تقليص التمويل سيزيد العدد. ومع اقتراب الصيف ستفاقم موجةُ الجفاف الضغطَ على أنظمة الغذاء والمياه والصحة التي تترنح أصلاً على شفا الانهيار.
وحالُها حالُ القطاع الخاص، يشوبُ الاستجابةَ الإنسانيةَ شكلٌ آخرُ من الغموض: وهو غياب البيانات الدقيقة التي لا يمكن توفيرها إلا من قبل الدولة، وهذا ليس بالأمر الجديد: فقد كان المكتب المركزي للإحصاء في عهد الأسد عصيّاً إلى درجة أن صحفياً سورياً بارعاً لم يستطع قط كشف أسراره رغم أنه لم يجد صعوبةً في مقابلة المسؤولين البعثيين أو تجار المخدرات. كما أن الحرب زادتِ الطين بلةً، إذ شردتِ الملايين، وأغرقت جزءاً كبيراً من الاقتصاد في دوامةٍ من الأنشطة غير القانونية والجريمة؛ ونتيجة لذلك تفتقر سوريا اليوم إلى الوضوح حتى في أبسط الأسئلة، كعدد اللاجئين العائدين أو سكان المدن والبلدات والقرى.
يتطلب حل هذه المشاكل المعقدة كثيراً من الوقت والموارد التي ينبغي على داعمي سوريا الخارجيين توفيرُها، كما أنه يتطلب أيضاً – وقبل كل شيء – سرعةً في استجابة دمشق، فقد تختار دمشق تأجيل الإصلاح الاقتصادي إلى ما بعد رفع العقوبات، وتأمين الدعم الخارجي، واستعادة الأمن الداخلي؛ لكن الحقيقة هي العكس تماماً: فدون بيئةٍ قانونيةٍ مستقرةٍ، وسياساتٍ اقتصاديةٍ واضحةٍ، ستواجه سوريا – حتى دون عقوباتٍ – مصاعبَ في جذب الموارد التي تحتاجها بشدةٍ لإعادة الاستقرار للبلاد. إن السياساتِ الاقتصاديةَ، على عكس العقوبات والمساعدات الخارجية أو الضربات الجوية الإسرائيلية، هي في أيدي قادة سوريا الجدد، ومن خلال إعطاء هذه السياسات الأولويةَ التي تستحقها – ودون إبطاءٍ – يمكن لدمشق أن تخطو خطوةً كبيرةً نحو التعافي والاستقرار.
28 أيار / مايو 2025
أليكس سايمون هو مدير البحوث في سينابس
الصور بعدسة أليكس سايمون / ترخيص ويكيميديا كومنز.
نوافذ في دمشق القديمة؛ أكياس إسمنتٍ في دوما