إن الاقتصاد السوري مُتماسك بفضل السوريين أنفسهم وذلك من خلال شبكة عالمية من الحوالات المالية التي تلبّي احتياجات الناس بطرق لا يمكن لآليات الدعم من أعلى إلى أسفل أن تلبيها، غير أن طوق النجاة هذا يتلاشى في الوقت الذي تغدو البلاد بأمسّ الحاجة إليه بسبب التضخم المُتسارع وتفاقُم الفقر. للحوالات النقدية دور بالغ الأهمية في التخفيف من الأزمة التي تعصف بالبلاد، غير أنه غالبا ما تطغى الجدالات السياسية الصِرفة حول العقوبات الغربية التي تستهدف النظام عند مناقشتها.
حتى وقت قريب، كان اقتصاد الحوالات في سوريا يتّسم بالكفاءة والمرونة وبتوجيه بالغ الدقّة، إذ كان يسمح للدعم بالذهاب مباشرة إلى محتاجيه ليستخدموه على النحو الذي يرونه مناسباً، كما أنه وفّر نفعاً على مستويين، إذ مكّن السوريين في المغترَب من البقاء على اتصال بأقربائهم داخل البلد، وبفضله استطاع المستقبلون للحوالات في سوريا من التقليل من اعتمادهم على الدولة وقطاع المساعدات. يشملُ هذا النظام حتى الآن شريحة واسعة من المجتمع، بما في ذلك السوريين المغتربين ممن يعيشون ظروف اقتصادية سيئة. أوضح صحفي سوري يعيش في إسطنبول ذلك بقوله: "حتى السوريون الذين يجنون بضع مئات من الدولارات شهرياً يرسلون الأموال إلى سوريا. إنهم يعيشون على الحد الأدنى لكي يتمكنوا من الاستمرار في دعم ذويهم في الداخل."
كما أن فوائد الحوالات تتجاوز عامة السوريين، فهي تقلل من الاحتياجات الإنسانية وبالتالي تخفف من العبء الذي يتحمله قطّاع المساعدات، وتزوّد الحكومة السورية بمصدر من العملات الأجنبية هي أحوج ماتكون إليه، ما يُساعد على مواجهة انخفاض قيمة العملة. جزء كبير من هذا التدفق النقدي يمرّ عبر لبنان، ما يولّد عمولات على كل حوالة، كما أن لدى الحكومات الغربية مصلحة راسخة في الحوالات، فاللاجئون السوريون يرسلون أموالهم إلى الوطن للمساعدة في إعادة بناء المساكن والبنية التحتية، الأمر الذي يمكن أن يسهّل عودتهم يوماً ما.
غير أنّ هؤلاء الفاعلين أنفسهم يعرقلون اقتصاد الحوالات في سوريا بطرقٍ ستثبت الأيام ضررها، إذ يشتكي السوريون في أوروبا من تقييد الدول المضيفة لقدرتهم على إرسال الأموال إلى الوطن أثناء تلقي المساعدة الحكومية. صحيح أنّ هذه السياسة لا تردع السوريين كلياً، لكنها تدفعهم إلى اللجوء إلى حلول السوق السوداء. كما أنّ الدول المجاورة لسوريا وضعت مجموعة من العقبات أمام إرسال الحوالات، إذ تجبر بعض البنوك التركية المتلقين السوريين على فتح حسابات تجارية مرتفعة التكلفة بدلاً من الحسابات الشخصية. أمّا في لبنان، فيعاني السوريون من الانهيار المالي المستمر ومن حقيقة أن البنوك اللبنانية تجعل من المستحيل تقريباً على السوريين العاديين فتح حسابات مصرفية.
ولكنّ الحكومة السورية في الآونة الأخيرة راحت تلعب الدور الأكثر عدوانية في تقويض تدفق الحوالات، فمنذ كانون الثاني / يناير 2020، يحاول النظام تحقيق استقرارٍ في سعر الليرة السورية والاستئثار بالأموال الأجنبية الواردة عن طريق منع الحوالات غير الرسمية التي يفضّلها السوريون منذ فترة طويلة على مكاتب التحويل المرخّصة التي تتعامل بسعر صرف ثابت وقوي بشكل مصطنع يخصم نسبة كبيرة من كلّ حوالة، كما أنّ إرسال الحوالات من خلال هذه المكاتب يتطلب الكثير من الإجراءات الروتينية التي تثير قلق العديد من العملاء. على النقيض من ذلك، تسمح السوق السوداء للسوريين بإخفاء هويتهم وتقدم لهم سعر صرف أفضل من السعر الرسمي.
منذ بداية العام الحالي أغلقت الأجهزة الأمنية مكاتب التحويل غير المرخصة بناءً على وشايات من مجهولين، وحتى أنها غرّمت واعتقلت سوريين عاديين لحيازتهم عملات أجنبية. قالت ناشطة في دمشق في شباط / فبراير: "يخشى الناس حتى من التحدث عن الدولار، وينصحني أصدقائي بأن أحذف من هاتفي كل نصّ يحتوي على كلمة دولارات." في حزيران / يونيو، شملت حملة الاعتقالات أصحاب مكاتب التحويل الرسمية ممن ضُبطوا في حالة تعاملٍ مع السوق السوداء.
كما دفعت عملياتُ إغلاق الحدود بسبب فيروس كورونا، بدءاً من آذار / مارس، اقتصادَ الحوالات إلى أيدي النظام أكثر فأكثر. قبل الإغلاق، كان أفضل خيار لإدخال الأموال إلى سوريا هو إرسالها بواسطة الأقارب أو سائقي سيارات الأجرة الموثوقين أو المسافرين الآخرين القادمين من لبنان، غير أن عمليات الإغلاق قضت على تلك السُّبل، تاركة الحوالات عن بُعد الخيار الوحيد. يجد السوريون اليوم أنفسهم مضطرين إما لقبول تكبُّد خسائر فادحة جراء النظام الذي تفرضه الدولة أو مواجهة مخاطر متزايدة إن هم لجأوا للسوق السوداء.
مما زاد الطين بلّة أنّ الأموال التي تشغّل هذا الاقتصاد آخذة في التناقص في سياق الركود الاقتصادي العالمي، ركودٌ أضحت آثاره تُلمَس فوراً في المناطق التي تعتمد اعتماداً كبيراً على الحوالات. وَصَفَ أحد الصرافين غير الرسميين في درعا في أيار/ مايو ذلك بقوله: "يغطي معظم الناس هنا نفقاتهم الشهرية بأموال يرسلها لهم أقاربهم في المغترَب، وقد خسر هؤلاء الأقارب عملهم بسبب فيروس كورونا، ما أدى إلى شلل الاقتصاد المحلّي بأكمله."
استجاب السوريون في المغترَب لهذه العقبات من خلال الحيل المالية، فراحوا يبذلون جهوداً جبّارة لجلب الأموال إلى محتاجيها، فتراهم يقتصدون في إنفاقهم الشهري أكثر فأكثر، ويستدينون من الأصدقاء والمعارف، ويعلّقون الآمال على العودة إلى "الوضع الطبيعي" حالما تُفتح حدود سوريا من جديد. هذه الالتواءات نفسية أيضاً، إذا يجد السوريون أنفسهم مجبرين على الاختيار بين مستويات من الابتزاز والمخاطرة التي لا بدّ أن يجرّوها على أنفسهم. لخّص شاب سوري في لبنان ما يجول في ذهنه قائلاً: "لن أرسل المال أبداً إن كان النظام سيأخذ أكثر من نصفه، وسيتعيّن على والديَّ إيجاد طرق أخرى لسدّ رمقهم." فيما وضع آخرون اعتباراتٍ مختلفةً، فتراهم مثلاً يرسلون الأموال عبر القنوات الرسمية من أجل الحالات الطبية الطارئة فقط، لا كنفقات شهرية.
حتى مع إعادة فتح الحدود، من المرجح أن تظلّ المشكلة شديدةالوطأة،إذ يحرُص كلا النظامين السوري واللبناني على تحويل الدولارات من خلال قنوات خاضعة لسيطرتهما لكي يعوضا نقص احتياطيّيهما من العملات الأجنبية وليكبحا جماح تدهور قيمة العملة. يمكن القول أنّ لهذه السياسات آثاراً عكسية في تقليلها كمية السيولة في السوق وخلقها حلقة مفرغة. لن يتطلب الأمر الكثير للتوقف عن اتباع هذا المنطق وتيسير دور عامة السوريين الكبيرِ - بدلاً من تقويضه - في إبقاء اقتصادهم واقفاً على قدميه. هذا السبيل واعد في السياق الجيوسياسي الحاليّ أكثر بكثير من أيّ نقاش حول تخفيف العقوبات، نقاشٌ سرعان ما يتحول إلى جدل سياسيّ معقد وعسير. ستخفف الحوالات بين السوريين الضغط على جميع الأطراف المعنية، فكلّما زادت كمية المال الذي يرسله السوريون إلى الوطن كان ذلك أفضل للجميع، وكلّ ما يحتاجونه في المقابل هو عراقيل أقلّ.
تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الإبداعي: