كيف تقوم بـ:
التأطير أحد أعسر المهام التي تواجهنا أثناء تحويل بحث مستفيض إلى منتج قابل للهضم. أي عمل ميداني سليم سيؤدي حتماً إلى نبش وفسخ تعقيدات القضية التي نعمل عليها، إلى درجة أن تبسيطها في نص مكتوب مسألة محيّرة للغاية. «ما هي الزاوية؟» سيسأل الصحفيون. السؤال نفسه سيطرحه، ضمنياً، المستفيد النهائي من عملنا؛ والحقيقة أن ذلك ينبغي أن يكون واضحاً منذ الوهلة الأولى: عم يدور هذا.
لنكن صريحين: التأطير تركيب صنعي تعسفي. الموضوع لا يؤطر نفسه، بل نحن من يتخذ قرارات انتهازية – اعتماداً على ما نراه على المحك – حول كيف نلتقطه؛ نحجزه؛ نستحوذ عليه.
بعض المنظمات تعتبر بطبيعتها التأطير مسألة بديهية. فحتماً ستقوم مراكز الأبحاث، التي تتوخى تشكيل عملية صنع السياسات، بوضع مجموعة وصفات حول قضية تجري المساجلة بشأنها أو تستحق طرحها للنقاش. ستقوم المنظمات غير الحكومية المنخرطة في المناصرة والنشاط التغييري بنشر المواد التي تلائم مهمتها. ستدلي وسائل الإعلام بما في جعبتها استناداً إلى الاستحقاق الإخباري أو القيمة العاطفية.
في الأوساط الأكاديمية، يُتوقع منك وضع لُصاقات على كتابتك وفق الأطر النظرية الحالية. يمكنك ببساطة تطبيق أحد هذه الأطر القائمة على موضوع معين؛ أو يمكنك طعن أساساته بتقديم مواد جديدة تعرّي حدوده النظرية؛ أو البناء عليه وإضافة بعض الزركشات؛ أو تطوير نموذج مستحدث خاص بك، محاولاً سدّ ثغرة محدّدة في الأدبيات المذكورة. يمكن بسهولة أن يغدو التأطير تمريناً شكلياً مملاً: الكثيرون من حملة الدكتوراه، مثلاً، يعوّلون بشدّة على منظار نظري نتيجة غياب العمل الميداني الكافي، فيركنون إلى ظلّ صرح فكري رصين، وفي الوقت نفسه يمتثلون للتعاليم الصارمة التي تفرضها حقولهم البحثية، حتى عندما تبدو هذه التعاليم منفصلة معطيات الواقع على الأرض.
رغم ذلك تبقى العدّة الأكاديمية فعّالة، وقد أنتجت العلوم الاجتماعية أدوات تحليلية سيكون تجاهلها تقصيراً كبيراً. بل إن بعض مفاهيمها، مثل «النبوءة التي تحقق ذاتها»، غدت أقرب إلى حكمة تقليدية. المفاهيم الأخرى علينا أن نتعلمها، ونتعلم استعمالها، بالقراءة. تكمن البراعة في العثور على الأداة المناسبة وعدم الانبهار بأداة واحدة جذابة: لا يهم كم مطرقتنا كبيرة ما دمنا فقط نريد حفر حفرة.
التأطير تركيب صنعي تعسفي
كذلك يمكنك تأطير موضوعك باستعمال مزيج من كل ما سبق: مقال مثل «إعادة اختراع الجهادية في الشرق الأوسط» وظّف منهجاً شبه أكاديمي في موضوع إخباري يلهب مشاعرنا وله علاقة بالسياسة – وبالتالي حاول الوصول إلى جمهور واسع ومتنوع. تقدم فقرته الأولى أطروحة واضحة، مفادها أن استجابتنا للتطرف لا تكبح محرّكاته بل تزيدها حدّة. بعد أن حدّدت علّة وجودها، كان بإمكان المقال أن يفسّر أن مبعث تلك الحلقة المعززة ذاتياً هو الطبيعة المتغيرة للحركة الجهادية نفسها.
بالتأكيد يتحدّد التأطير الناجع للتحليل الهادف لكل حالة على حدة. في كثير من الأحيان، يتناسب اهتمام القارئ عكساً مع مدى وضوح المسألة بالنسبة لك: كلّما ازدادت جلاءً، ازداد برماً. أما ما قد يكون جديداً ومهماً ويعني الناس بحق، فسيكون أيضاً مراوغاً بشكل غريب. إذاً أنت قمت بوظيفتك: تعرف – أو على الأقل يجب أن تعرف – موضوعك أفضل من أي شخص آخر. الآن، كيف يمكن مشاركة فهم ضليع ومفصّل دون قتل الجمهور ضجراً؟
لعل مقال «حسرة القلب السورية» يحتوي على مفتاح لحل هذا اللغز. فهي تشرّح مطولاً الديناميكيات المبكرة للنزاع السوري، مستنيرةً بعمل ميداني ومقدمةً وجهات نظر تحليلية. كان العثور على مدخل لهذه الملحمة، الطامحة لا إلى وصف الأزمة فقط بل ولإشعار القارئ بعمقها المأساوي، أمراً فائق الصعوبة. في النهاية، كان لمشهد على الحدود السورية لعائلات تستعد لترك كل شيء وراءها أن أعطى المقال لا عنوانه فحسب، بل مقدمته وخاتمته، إنسانيته ودافعه العام، حيث ركّز النص على الاعتزاز الوطني. وهكذا جاء تأطير المقال حول كرامةِ سوريّةٍ سقطت سهواً خلال النزاع ليدعّم السردية بشيء محسوس.
كثيراً ما يأتي التجلي عبر الانخراط الحي مع الموضوع قيد النظر. على وجه الخصوص، ردود أفعال من نتحدث معهم حوله، سواء خلال اجتماع أو مؤتمر أو بشكل عرضي، تساعدنا في العثور على الطريقة الأمثل لوصل نصوصنا بقرائنا المستقبليين
الكثير من العمل الذي نقوم به كباحثين يشبه جمع تحف فنية لمتحف
لكن بدلاً من الانهماك بالبحث عن صلات روحية مع جمهورنا المأمول، من المفيد التذكير بأن على الإطار، قبل كل شيء، أن يكون صالحاً. عليه أن يحقق غرضنا أثناء سعينا المحموم لتحقيق نتيجة معينة: إقناع جمهور، نقل موقف، شرح قضية، إلخ. الإطار هو ما يساعدنا على إنتاج هذا الأثر. ومن دونه كل ما لدينا مجموعة مبعثرة من المعلومات والأفكار.
بمعنى ما، يشبه الأمر الهندسة المعمارية، التي دائماً تصمَّم فراغاتها ومنظوراتها وترتيباتها وتوزيعاتها لإنتاج أثر. بدون الهندسة لدينا فقط طوب وخرسانة، عاجزة عن تحفيز أي فكرة أو عاطفة. بتجميعهم بطريقة معينة، فجأة يمتلكون الطاقة لفعل ذلك.
للإفادة أكثر من هذا التشبيه، إطارك يشبه إلى حد بعيد مبنى من المباني – ولنقل متحفاً. لديه مدخل ومخرج، ومجموعة من الغرف تسير فيها مع زائريك. كدليل، هدفك أولاً أن تقدم لهم الترحيب اللائق: أي ما يشعرهم بالارتياح ويشدّهم للدخول. ثم تحتاج أن تشارك معهم كل ما يبدو لك مهماً، مع الحفاظ على التوازن الصحيح. ستركز على مناظر معينة، «تدخلها» عبر الإسهاب في شرح سياقها، مع الاعتناء جيداً بالتحولات. في نهاية المطاف، السردية التي ستتنامى على طول هذا المسار ستترك زائريك مختلفين، وعسى أن تتركهم مذهولين، ووقتها، في ختام الرحلة، يمكنك أن تقودهم نحو الباب.
في الحقيقة، الكثير من العمل الذي نقوم به كباحثين يشبه جمع تحف فنية لمتحف: لن نتأكد من عملنا الميداني سوى بتخبئة الكثير منه، في الأدراج والمخازن. بعد ذلك نختار ما يجب إظهاره، وكيف يجب إظهاره، ولماذا. وكما دائماً، من المهم الانطلاق من الـ«لماذا»، التي تمثل التأطير، والذي ينبع منه الإطار بما هو إطار. بعد معرفة أسباب إعدادك لتلك الجولة الإرشادية، يمكنك تحريك الأشياء بالاتجاه العكسي لتحديد إلى أين ستذهب (بمعنى آخر، الخطوط العريضة) وما الذي تريد كشفه بالضبط.
22 كانون الأول/ ديسمبر 2016
تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من:
arrest card 1963 by Lee Harvey Oswald on Wikipedia / public domain