سوريا اليوم وغداً

الناشطون بين الماضي والحاضر

"لم نعرف، نحن الناشطين، سوى القليل جداً عن بلدنا، حتى عندما هممنا بمحاولة التغيير فيه"، هذا ما قالته منتجةُ أفلامٍ تعيش في ضواحي دمشق حيث ترعرعت، وقد كانت في منتصف العشرينات عندما نزلت إلى الشارع في عام 2011 مع عددٍ لا حصر له من الشبان والشابات للمطالبة بالتغيير. وقد ارتجل هؤلاء ثورتهم، إذِ استخدموا الأدواتِ والتكتيكاتِ التي كانت تُجرّب حينئذٍ في أماكنَ أخرى في سوريا والعالم العربي، دون كثيرٍ من الاستلهام من التجارب السابقة للمعارضين السوريين الذين سبقوهم. وتابعت قائلةً: "ينبغي علينا اليوم التفكرُ بهدوءٍ وتحليلُ ما حدث لكي نتجنب تكرار أخطاء الماضي."

إن الدروس التي يمكن تعلمها من مقارعة النظام كثيرةٌ، وتتراكم عاماً بعد عامٍ، وتمتد لثلاثة أجيالٍ من الحراك المدني، بدءاً بلفيفٍ من قُدامى السياسيين والمثقفين المعارضين، مروراً بالشباب الذين قادوا الثورة، وصولاً إلى جيلٍ صاعدٍ راح اليوم يصنع وعيه السياسي الخاص به. لدى كل مجموعةٍ من هؤلاء الكثيرُ ليتعلموه من المجموعات الأخرى، وكذلك الكثير ليُعلّموه. إن هذا التبادل لا يقتصر على فهم كيفية وصول سوريا إلى مأزقها الحالي فحسب، بل سيسلّط الضوء على المجتمع السوري اليوم، ويوضح ما يطمح إليه البلد غداً.

حاجز ما بين الأجيال

لقد كان الانفصال بين الناشطين القدامى والجدد واضحاً منذ بداية الثورة، فقدِ غصت الشوارع بسوريين في سن المراهقة والعشرينات والثلاثينات، سلاحهم الذكاء الرقمي ومدفوعين بالحماسة التي كانت تجتاح العالم العربي. ولمّا انضم الشباب السوريون إلى الحركة الاحتجاجية المتنامية، آثر آباؤهم المكوث في منازلهم، أو حتى حاولوا ثني أبنائهم عن المشاركة فيها.

يمكن إرجاع هذا الحذر إلى أكثرَ من نصف قرنٍ مضى، وتحديداً إلى العقد الأول بعد استقلال سوريا عام 1946. يتذكر السوريون الأكبر سناً تلك الحقبة باعتبارها عهداً ذهبياً قصيراً من حيث المشاركة السياسية، فقد ازدهرتِ الحركة المدنية وعبرت عن نفسها من خلال صحافةٍ حرةٍ ونشاطٍ طلابيٍّ نابضٍ بالحياة، وأحزابٍ سياسيةٍ استمدّت أفكارها من الشيوعية والعروبة ونمط الإسلام السياسي الخاص بجماعة الإخوان المسلمين.

بيد أن هذا الانفتاح لم يعمَّر طويلاً، فبدءاً من اندماج سوريا في الجمهورية العربية المتحدة بقيادة جمال عبد الناصر عام 1958، شرعت سلسلةٌ من الحكومات العسكرية في تفكيك الهياكل السياسية وخنق المعارضة، وقد جاءت ذروة القمع مع حملة حافظ الأسد الوحشية ضد الإخوان المسلمين بين عامي 1980 و 1982، حين دُمرت أحياءٌ بأكملها في حماه وحلب واختفت أسرٌ كبيرة.

وقد تركز الصراع حينها في هاتين المدينتين، لكن تأثيره المروع امتد إلى جميع أنحاء سوريا، فأغرقَ البلادَ في ثقافة صمتٍ مطبقٍ لدرجة أن كثيراً من الآباء ربّوا أبناءهم دون التفوه بكلمةٍ عن ذلك الصراع خوفاً من بطش الأجهزة الأمنية. لم يُقمعِ النشاطُ التغييري والأحزابُ السياسية الحقيقية والنقاشاتُ الإيديولوجية والصحافةُ الحرةُ فحسبُ، بل أصبح دورها في تاريخ سوريا أثراً بعد عينٍ، وكان مصير كلِّ من انخرط في الانفتاحِ السياسي قصيرِ الأجل المنفى أو الاعتقال أو الصمت.

وقد بدا أن تولّي بشار الأسد رئاسة سوريا في عام 2000 يبشر بتغييرٍ مرحبٍ به، إذ تعهد الرئيس الشاب حينئذٍ بإعادة فتح الفضاء المدني والسياسي في البلاد، فأدى ذلك إلى حدوث طفرةٍ في المنتديات السياسية ومنظمات المجتمع المدني المنشأة حديثاً، طفرةٍ باتت تُعرف حينها باسم ربيع دمشق. غير أنّ هذا الانتعاش السياسي كان محدود النطاق بقدر ما كان قصير الأجل، فقد اقتصرتِ النشاطاتُ في الغالب على نخبةٍ مدنيةٍ ضيقةٍ ما لبثت أن تعرضت لحملة قمعٍ جديدةٍ، وبذا ظلّ معظم السوريين ممن بلغ سن الرشد في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته في جهلٍ بتاريخهم السياسي.

الصحوة والعداء

إن الافتقار إلى الوعي كان سيفاً ذا حدين في الحركة الاحتجاجية التي اندلعت في سوريا سنة 2011؛ إذ قاد الشبابُ الثورة بشجاعةٍ وإبداعٍ وتفاؤلٍ، غير متأثرين بالصدمة التي ثنت آباءهم عن النزول إلى الشارع؛ بيْد أن هذا الحراكَ الجديدَ قد ترك الناشطين الجددَ غير مستعدين لمواجهة نظامٍ أساؤوا قراءة تكتيكاته. يتذكر البعض الآن، على سبيل المثال، توقعاتِهِمُ الساذجةَ بأنّ قواتِ الأمن لا يمكن أن توغل في قتل المتظاهرين بينما العالم يتفرج، كما يروي آخرون كيف استخفّوا بقدرة النظام وخبرته في حَرف المظاهرات عن مسارها عن طريق استغلال الانقسامات الطائفية وتضخيمها، لا سيما في المناطق المختلطة طائفياً، والتي كانت أولَ من وقع في فخ الاقتتال الطائفي.

وفيما راح الشبان السوريون ينظمون حركة احتجاجٍ شعبيةً، كان أسلافُهُم من السياسيين يصنعون فضاءً خاصاً بهم ومختلفاً كلياً؛ فقدِ ارتدى الجيلُ الأقدم من المعارضين المنفيين - ممن عاصروا ذروة الانفتاح السياسي في سوريا وفرّوا من القمع الذي أعقبه - عباءةَ تمثيل الثورة على الصعيد العالمي. وقد ظلّ بعض قدامى المعارضين في سوريا، بيد أن كثيراً من المعارضين الآخرين مستقرون في الخارج منذ زمنٍ، ومسلحون بالقدرة على التنقل والعلاقات وعقودٍ من الخبرة السياسية، وقد كان من الطبيعي أن يتسيد هؤلاء مؤسساتِ المعارضة التي كانت تتشكل في المنفى كالمجلس الوطني السوري.

وعلى الرغم من المؤهلات التي بدا أن هؤلاء المعارضين المتمرّسين يتمتعون بها، سرعان ما تعرضوا للهجوم من الناشطين الشباب الذين وصموهم بالعاجزين والبعيدين عن الميدان، فقد ألبستهم أنماطُ حياتهم العالمية ومشاركاتهم المتكررة في الاجتماعات باهظة التكلفة من اسطنبول إلى جنيف حِلّةَ عملاءَ نخبويين يخدمون قوىً خارجيةً ولا همّ لهم سوى إثراء أنفسهم. إن كثيراً من هؤلاء لم يعش في سوريا منذ عقودٍ، بل لعل أقدامهم لم تطأها أبداً، ولذا واجهوا صعوبةً في التواصل مع المحتجين الشباب ممن لا تجمعهم بهم أية أطرٍ مرجعيةٍ. انتقد ناشطٌ شابٌّ يعيش في دمشق المعارضين الأكبر سناً لكونهم أكثر ميلاً لمشاركة معلومات نظرية من تقديم الدعم العملي بقوله مردداً صدى أقرانه:

لم نكن بحاجة لمن يقدم لنا نظرياتٍ عما يجب أن تصبح عليه بلادنا في نهاية المطاف. لقد كنا نرزح تحت تهديدٍ مباشرٍ جعلنا أحوجَ إلى من يرشدنا سبلَ التواصل الآمن فيما بيننا، ويعلمنا مفاصلَ الأمن الرقمي، وكيفيةَ التعاطي مع الأجهزة الأمنية في حال تعرضنا للاعتقال.

ولما تصاعدت حملة القمع التي أطلقها النظام، وراح الناشطون الشباب يعانون الاعتقالَ والتهجيرَ القسريَّ ويتعرّضون لخطر الموت، ازداد استياؤهم من أولئك المعارضين باعتبارهم غارقين في الترف ولا خير يُرجى منهم. قال ناشطٌ ثلاثينيٌّ من السويداء يعيش الآن في لبنان: "المشكلة ليست في النظام فحسب، بل في معارضة الخارج أيضاً لأنها لم تقدم سوى الخطابات الفارغة. لقد دفع الناشطون الشبابُ ثمناً باهظاً بسبب هذه التركيبة."

وقد كان لهذا الانفصال استثناءاتٌ ملحوظةٌ، فقد سعى البعض من كلا الجانبين بجدٍّ إلى رأب تلك الفجوة بدفع أنماطٍ صغيرةٍ وخصيبةٍ معاً من أنماط التلاقح في مجالاتٍ عدةٍ كالصحافة والنضال النسوي والعمل الإغاثي والتنظيم السياسي. يستحضر أكاديميٌّ وسياسيٌّ سوريٌّ مسنٌّ دورَه في الأيام الأولى للثورة، قبل أن ينتقل من دمشق إلى بيروت: "عندما اندلعتِ الثورة، قصدني كثيرٌ من الشباب للاستعلام عن تاريخ سوريا السياسي، وكيفية تشكيل الأحزاب. لقد كانت علاقةً مثمرةً وديناميكيةً." 

ويبدو أن المأزق الحالي في سوريا قد زاد الشهية لهذه الحوارات، ففي مواجهة الانسداد السياسي، راح الناشطون الكبار والصغار على حدٍّ سواءَ يقيّمون الأخطاءَ التي ارتُكبت، وما ينبغي أن يحدث بعد ذلك. يتساءل البعض عما إذا كان تعزيز التواصل بينهما قادراً على وضع الثورة على أساسٍ أقوى، وفي ذلك يقول ناشطٌ يعيش في بيروت: "نحن الشبابَ السوريين لم نحسنِ الإصغاء ولا التعلم؛ إذ كنا نلوم أحياناً الجيل الأكبر سناً على عدم قيامه بدورٍ أكثر نشاطاً؛ أما الآن وقد رأينا ما يستطيع النظام فعله، بتنا نتفهم كم كان ذلك عسيراً بالنسبة لهم." وإذا كانت أعدادُ المستعدين للإصغاء في تزايدٍ، فالمستعدون للتحدث كثرٌ أيضاً. أضاف الأكاديمي المسن: "من واجبنا جميعاً دعم هذا الجيل الشاب بدلاً من محاولة أخذ مكانه."

طموحاتٌ متقلّصة

إن ما سيحل بسوريا في قادم السنوات لا يعتمد على الشباب الذين قادوا الثورة فحسب، بل على من جاء من بعدهم أيضاً من الشابات والشبان الذين وُلدوا أواخر التسعينات وأوائل القرن الحادي والعشرين، وكانوا حديثي السنٍّ لدرجة أنهم لم يلعبوا دوراً رئيساً في الثورة السورية أو الصراع الذي أعقبها. غير أن شخصية هؤلاء تشكلت إبان تلك التجربة التكوينية، فورثوا، بحكم الأمر الواقع، مسؤوليةَ جمع الحطام ولملمة الجراح، فبعضهم يجرب أشكالاً صغيرةً من النشاط المدني، ضمن المساحة الضيقة المتاحة لهم، فيتطوعون في مبادراتٍ خيريةٍ، ويشاركون في محادثاتٍ رقميةٍ حول الحركة النسوية أو حقوق الإنسان، ويكرسون أنفسهم للعمل الاجتماعي من خلال المنظمات غير الحكومية.

بيد أنّ الشبابَ والشاباتِ داخل سوريا اليوم أكثرُ ميلاً للهرب من بلدهم من محاولة إصلاحه، فكثيرٌ منهم يَنفُرون تماماً من مفهوم السياسة ذاته، بل ويقرفون منه. وإذا كان أسلافهم قد نشأوا وترعرعوا في عصر التعتيم والإقصاء السياسي، فهذه الفئة هي نقيض ذلك، فقد نشأوا في عقدٍ من التسييس المتطرف والعنيف والعبثي، وسئموا من قُبح النظام السوري وخصومه وكذلك اللاعبين الدوليين الذين دعموا أطراف الصراع كلها. أضف إلى ذلك الخوفَ المتجددَ من الدولة الأمنية في سوريا؛ إذ يفكر معظم الشباب – على الأقل في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام - مرتين قبل أن يأتوا على ذكر السياسة، وهو ما عبّر عنه طالبٌ يدرس علم النفس في دمشق: "الخوف لا يفارقنا، وأفضل ما يمكننا القيام به هو التزام الصمت."

والخوف، في الواقع، موضوعٌ متكررٌ في النقاشات مع هذه الفئة؛ ولا يقتصر ذلك على الخوف من المراقبة فحسب، بل الشعور بقلقٍ أوسع انتشاراً وأشد استفحالاً؛ ولدته سنواتٌ من الصدمة التي تركت دون معالجةٍ. يضيف طالب علم النفس:

يعيش الشباب في اكتئابٍ وأرقٍ وقلقٍ عامٍّ؛ فلم يعالجنا أحدٌ من اضطراب ما بعد الصدمة، ولا حتى سألنا عما ينتابنا من مشاعر. كل ما يفعله الأطباء هو وصف كثيرٍ من مضادات الاكتئاب؛ كما لو أنه لا حل لحالنا إلا بتخديرنا، وها نحن نخدر أنفسنا، ونلجأ إلى الحشيش والكحول. أنا شخصياً أدخن الحشيش منذ خمس سنواتٍ للسيطرة على قلقي.

إن مزيج الخوف واليأس يدفع الناس إلى الانسحاب حتى من أبسط مفاهيم المسؤولية الاجتماعية، فكثيرٌ من السوريين يتساءلون عن سبب وجوب خوضهم معركةً شاقةً لتغيير الأمور نحو الأفضل في بلدٍ لم يعطهم سوى القليل وأخذ منهم الكثير. لخّصت طالبةٌ جامعيةٌ تُدرّس الأطفال النازحين في ضواحي دمشق هذه العقلية الفردية بقولها: "سوريا لم تعطنا شيئاً، ولذا ليس من واجبي أن أصلحها، وإني لَأرفض أن أكون جزءاً من هذا الخراب." كما عبّر شابٌّ عشرينيٌّ كان قد فقد والده في دهاليز المعتقلات السورية الشعورَ نفسه بعباراتٍ أقسى:

أكرهُ هذا البلد ولا يهمني هذا المجتمع. لا يمكنك العيش بكرامةٍ هنا، حتى لو عملت يومياً كالبغل. سوريا ماتت، وكل الشباب يريدون الهجرة وحسب. أنا شخصياً لا أطيق الانتظار للانتقال إلى أوروبا وبدء حياةٍ جديدةٍ فيها، ولن يكون لعودتي أيُّ سببٍ سوى زيارة أمي وأصدقائي.

في الواقع، تدور كل المحادثات تقريباً مع الشباب السوريين حول الهجرة التي غدت أشبه بالحلم. والأهم من ذلك، أنْ ليس كل من يسعى للهجرة ينوي تمضية حياته كلها في المغترب، فبعضهم يحدوه الأمل بالعودة إلى الوطن، فيُسخّر المؤهلات التي سيكتسبها في الخارج في خير بلده الأم. قال طالبٌ في السنة الثالثة في قسم تكنولوجيا المعلومات في دمشق: "أريد السفر لنيل درجة الماجستير، لكني سأعود بعد ذلك لخدمة بلدي." كما عبّر طالب علم النفس عن منطقٍ مماثلٍ بقوله: "هناك الكثير من العمل الذي يتعين عليَّ القيام به حيالَ الشباب هنا، وعليَّ أن أكون داخل سوريا للقيام بذلك؛ لكني بدايةً أحتاج إلى مواصلة دراستي في الخارج، لأن الجامعات السورية ميؤوسٌ منها."

إن هذه البقية المتبقية من التصميم والعزم تحملُ بصيص أملٍ لمستقبل سوريا. علاوةً على ذلك، فإن الأقلية الهادئة من الشباب العازمين على مساعدة بلدهم في التعافي يرفدون هذه المهمةَ بمنظورٍ جديدٍ وجملةٍ من المؤهلات الفريدة، فهؤلاء مؤهلون رقمياً، وأكثر وعياً وتواصلاً من كل من سبقهم، وملمون بالتوجهات والتطورات العالمية من تغير المناخ إلى الفكر النسوي. قالت المخرجة المذكورة أعلاه في وصفها لتجربتها الخاصة في تدريب المراهقين على تصوير فيديو وثائقيٍّ بهواتفهم المحمولة: "هذه الفئة العمرية الأصغر سناً واسعةُ الاطلاع ومتعطشةٌ للمعرفة." ولما أُجبروا على النمو بسرعةٍ كبيرةٍ، فإنهم غالباً ما يحللون ضائقتهم بوضوحٍ وتعقيدٍ يتجاوزان سنيّ عمرهم.

يبقى أن نرى إلى أي شكلٍ من أشكال السياسة ستُترجم هذه التجارب، وما إذا كانت ستحفز حدوث التغيير. بيد أن بذور ثقافةٍ سياسيةٍ جديدةٍ حاضرةٌ بالتأكيد، خاصةً أن نظرة هذه الفئة بعيدةٌ كل البعد عن نظرة من جاؤوا قبلهم، هذا لأنهم غرباءُ عن السياسات الحزبية التي سادت خمسينات القرن الماضي بقدر ما هم غرباءُ عن الحماسة الثورية التي طغت على العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. تقول المخرجة: "يمثل هؤلاء موجةً ثالثةً، ومن السابق لأوانه معرفة ما إذا كان بإمكانهم المساعدة في إنقاذنا. إنهم الآن مسؤولون عن جلّ ما تبقى من النشاط التغييري في سوريا، لكنهم بحاجةٍ إلى مساعدتنا، ونحن بحاجة إلى مساعدتهم."

بناء جسور التواصل

وفيما يصوغ الشباب السوريون هويتهم المدنية، فإن كثيراً من المعارضين الأكبر سناً يَبلغون أرذل العمر. يواجه الثوار في المنتصف نقطةَ انعطافٍ خاصةً بهم، وذلك أنهم مجبرون على التعامل مع ما سيأتي بعد عقدٍ من خيبة الأمل والإحباط، ومعاً يختبرون ببطء سبلاً لرأب الانقسامات التي أعاقت النشاط التغييري في سوريا منذ زمنٍ، سواءً بين الشيوخ والشباب، أو بين المقيمين داخل البلاد وخارجها. ولهذه التجارب أشكالٌ مختلفةٌ، كأن ينشر أحد قدامى المعارضين مذكراتٍ عن تعثر الثورة؛ أو أن يزور بيروتَ أكاديميٌّ يقيم في أوروبا لإلقاء محاضرات عن المجتمع السوري للجيل القادم من الباحثين؛ أو أن تخلق منظمةٌ غيرُ حكوميةٍ من تأسيس الثوار مساحاتٍ يعبّر فيها الشباب عن طموحاتهم وقلقهم بشأن مستقبلهم ومستقبل بلدهم.

بيد أن ما يتعين القيام به يفوق ذلك بكثيرٍ، وكثيرةٌ هي السبل للقيام بذلك. لقد ولّدت الانتفاضة السورية مشهداً نابضاً بالمبادرات الإعلامية، والمنظمات الإغاثية، ومراكز البحوث، والمؤسسات الثقافية، مما قد يحفز الحوار بين المجموعات التي لديها الكثير لتتعلمه من بعضها بعضاً، وإن كان التواصل فيما بينها ضعيفاً. إن انتشار التكنولوجيا الرقمية - الذي تَسارع بسبب الوباء، والحاضر بقوةٍ بين الشباب السوريين - يوفر سبلاً متنوعةً لرأب الفجوات الجيليّة والجغرافيّة.

كما أن الوقت مناسبٌ من نواحٍ أخرى أيضاً. فلسنواتٍ، لم تترك الاضطرابات التي رافقت الثورة السورية سوى مساحةٍ صغيرةٍ للتفكير الهادئ. وفيما كان الناشطون من جميع الأطياف يشقون طريقهم في طورٍ من التغيير السريع والمزعزع، فمن الطبيعي أنهم لاقوا صعوبةً في إيجاد سبل لسد الفجوات الكثيرة بينهم. لقد دخلت سوريا اليوم مرحلةً مختلفةً للغاية، مرحلةً لا تتسم بالاضطراب الشديد بقدر ما تتسم بالتكيّف الحذر والاستبطان الذي يدفعنا إلى البحث عن الحكمة لدى شيوخنا وشبابنا. وفيما يخص أولئك الذين يتوقون إلى إسقاط دروس الماضي على ما يرسمون من مسارٍ لمستقبل سوريا، فالآن هو الوقت للبدء بذلك.


3 أيار/ مايو 2022

يعود العمل الفني "بين الماضي والمستقبل" إلى شادي أبو سعدة وتمت اعادة انتاجه بكل امتنان من قبل سينابس

تم انتاج هذا المقال بدعم من الاتحاد الأوروبي ودولة ألمانيا الاتحادية. إن محتوى المقال يقع على عاتق مسؤولية سينابس وحدها ولا يعكس بالضرورة آراء الجهات المانحة.